[عدم شفاعة الشافعين يوم القيامة إلا بإذن ورضا الله سبحانه وتعالى]
قال رحمه الله تعالى: [وقد ثبت بنص القرآن في غير آية أن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، وقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣]، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨] وأمثال ذلك.
والذي يبين أن هذه هي الشفاعة المنفية: أنه قال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:٥١]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:٤] فأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع.
وأما نفي الشفاعة بدون إذنه، فإن الشفاعة إذا كانت بإذنه لم تكن من دونه، كما أن الولاية التي بإذنه ليست من دونه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:٥٥ - ٥٦].
وأيضاً فقد قال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:٤٣ - ٤٤] فذم الذين اتخذوا من دون الله شفعاء، وأخبر أن لله الشفاعة جميعاً، فعُلم أن الشفاعة منتفية عن غيره، إذ لا يشفع أحد إلا بإذنه، وتلك فهي له.
وقد قال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:١٨].
ومما يوضح ذلك: أنه نفى يومئذ الخلة بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:٢٥٤]، ومعلوم أنه إنما نفى الخلة المعروفة ونفعها المعروف، كما ينفع الصديق الصديق في الدنيا، كما قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:١٧ - ١٩]، وقال: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٥ - ١٦]، لم ينف أن يكون في الآخرة خلة نافعة بإذنه، فإنه قد قال: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:٦٧ - ٦٨]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: حقت محبتي للمتحابين فيَّ)، و (يقول الله تعالى: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).
فتعين أن الأمر كله عائد إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا ينفع أحد ولا يضر إلا بإذن الله، وأنه لا يجوز أن يعبد أحد غير الله، ولا يُستعان به من دون الله، وأنه يوم القيامة يظهر لجميع الخلق أن الأمر كله لله ويتبرأ كل مدع من دعواه الباطلة، فلا يبقى من يدعي لنفسه معه شركاً في ربوبيته أو إلهيته، ولا من يدعي ذلك لغيره بخلاف الدنيا، فإنه وإن لم يكن رب ولا إله إلا هو فقد اتخذ غيره رباً وإلهاً وادعى ذلك مدعون.
وفي الدنيا يشفع الشافع عند غيره، وينتفع بشفاعته وإن لم يكن أذن له في الشفاعة، ويكون خليله فيعينه ويفتدي نفسه من الشر، فقد ينتفع بالنفوس والأموال في الدنيا، النفوس ينتفع بها تارة بالاستقلال، وتارة بالإعانة وهي الشفاعة، والأموال بالفداء، فنفى الله هذه الأقسام الثلاثة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:٤٨]، وقال: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:٢٥٤]، كما قال: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا