للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إحسان الخالق إلى عبده مع غناه عنه]

قال رحمه الله تعالى: [الوجه السادس: أن الله سبحانه غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحساناً، والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضاً من تيسير الله تعالى فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر، فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك.

وكذلك من أحب إنساناً لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو -ولو بالدعاء أو الثناء-، فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجراء الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرّج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِّم وأُدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.

إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه].

الشيخ هنا قد استثنى أكثر من مرة، قال: إلا إذا كان لله، أو كان العمل لله، أو كانت المحبة لله، فيستثني من هذا علاقات الناس أو علاقات المؤمنين فيما بينهم، والتي أصلها المحبة في الله؛ لأنه قصد به وجه الله، فالإنسان قد يحب عبداً أو إنساناً آخر لما فيه من الخير والخصال الطيبة، فهذه المحبة لله داخلة في إخلاص العمل لله عز وجل، ولذلك فهذه قد يسعى فيها الإنسان إلى نفع أخيه احتساباً وابتغاء وجه الله عز وجل، لكن ليس هذا عليه علاقات أكثر الناس، بل علاقات أكثر الناس مبنية على المنافع وعلى المصالح، ولذلك تجد الناس يتهافتون على من لهم عنده مصلحة، سواء كانت مادية أو معنوية، فإذا انقطعت وانتهت هذه المصلحة، كأن يكون صاحب منصب فعُزل عن منصبه أو تقاعد أو قلّت موارده المالية، انفض الناس من حوله، وهذا ما يقصده الشيخ، وعليه فقس علائق الناس بالأشياء وحبهم لها وتعلقهم بها، فقد تكون لأغراض ترجع إلى مصالحهم ومنافعهم، ولذلك الشيخ استثنى فقال: إنما كان القصد فيه وجه الله، يقصد التحاب في الله، وما بين المسلمين والمتحابين في الله من نفع بعضهم لبعض حسبة لطلب الأجر من الله سبحانه.

لكن قد يقول قائل: أليست المحبة الدينية يحصل للعبد بها انتفاع؟ فنقول: نعم سينتفع العبد من هذه المحبة، وذلك بالأجر من الله عز وجل يوم القيامة، وهذا يرجع إلى إخلاص العبادة لله؛ لأن الله عز وجل أمر بالتحاب بين المؤمنين، وجعله من أسباب الثواب، فالمنفعة التي ترجع إلى إخلاص العمل لله عز وجل ترجع إلى طلب الثواب من الله عز وجل، وهذه هي المنفعة التي فطر الله الناس عليها وأمرنا بطلبها، وليس فيها حرج.

أيضاً: قد يقول قائل: إن العباد لا يحبون بعضهم بعضاً إلا لمنفعة تحصل لهم، سواء كانت دينية أو دنيوية، فنقول: هذا صحيح، يعني: بمعنى أن الناس لا بد أن يسعوا إلى منفعة لهم، سواء كانت دينية أو دنيوية، لكن كلام الشيخ يشعر بذم الوجه الآخر، فأقول: إنه يميز الوجه الذي يقصد به المنافع العاجلة أو الدنيوية أو الشهوية، والمنافع الحقيقة التي هي طلب الأجر من الله عز وجل، فيما يحققه الإنسان بعلاقته بالآخرين أو بإخوانه في الله.

قال رحمه الله تعالى: [والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه، ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:١٧ - ٢٠].

وقال فيه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:٩].

<<  <  ج: ص:  >  >>