[أنواع الشرك وضرورة تعاهد الإنسان نفسه خشية الوقوع في الرياء]
قال رحمه الله تعالى:[فالرب يحب أن يُحب، ومن لوازم ذلك: أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به، والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك: محبته لعبادة الله، فمن عبد الله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله، في إخلاص الدين له، ومن طلب من العباد العوض، ثناء أو دعاء أو غير ذلك، لم يكن محسناً إليهم لله، ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم في الله كان محسناً إلى الخلق وإلى نفسه، فإن خوف الله تحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه؛ لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشيء أعظم من شرهم أو مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله، وهو إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم، فإن طبع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق كثير الظلم إذا قدر، مهين ذليل إذا قهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس.
وكذلك إذا رجاهم فهم لا يُعطونه ما يرجوه منهم، فلا بد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفاً من الله عز وجل، وهذا موجود كثير في الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضاً، ويرجو بعضهم بعضاً، وكل من هؤلاء يتظلّم من الآخر، ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم لبعض، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تُعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصي المختصة كالشرك والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولا سيما إذا كان طالباً ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر ماجريات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى].
قوله:(ماجريات النفس)، أي: رغباتها وميولاتها؛ لأن النفس أمّارة بالسوء، وقد ذكر السلف أن للنفس وجوهاً متعددة، أو أن النفوس ثلاثة: منها: الأمّارة بالسوء، وهذه أكثر إلحاحاً على الإنسان؛ لأنها هي التي تستجيب لأهواء ورغبات النفس، ووساوس الشيطان، وهي أشد النفوس وقوعاً في الشهوات والشبهات، ولذا فالرغبات والميولات هي التي تدفع الإنسان إلى أن يرضي نفسه الأمّارة بالسوء.
قال رحمه الله تعالى: [فإن الإنسان خُلق محتاجاً إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائماً، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا لله وحده، فلا تطمئن القلوب إلا به، ولا تسكن النفوس إلا إليه، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:٢٢]، فكل مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له].
ذكر الشيخ هنا أنواع الشرك، فذكر الشرك الخفي والشرك الجلي، وأغلب ما يشير إليه هنا هو الشرك الخفي؛ لأن أغلب المسلمين يقعون فيه، بمعنى: أنهم يتّبعون أهواءهم ويطيعون رغبات أنفسهم، ويطيعون الناس ويخافونهم ويرجونهم وغير ذلك مما قد لا يصل إلى الشرك الأكبر، ولذلك ينبغي للإنسان دائماً أن يتعاهد نفسه في كل عمل يعمله، بل وفي كل ما يأتي به وما يذر، حتى فيما يفكّر فيه من الأمور غير العملية، أو فيما يخطر على باله من خطرات، فينبغي للمسلم أن يتعاهد نفسه لئلا تقع فيما تستريح إليه النفس الأمّارة بالسوء من المحرمات، وفعل الفواحش وقول الزور والحسد والهزل وإضاعة الوقت واللعب ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك مما تُدفع إليه النفس؛ ولأنه ربما يكون فيه شيء كثير من الشرك الخفي؛ لأن الشرك الخفي ليس عليه دليل، لكن من أبرز معاني الشرك الخفي هو الرياء؛ لأنه أخفى الأعمال، ولأن الإنسان قد يظهر بمظهر حسن أو مستقيم في حين أنه فيما بينه وبين ربه قلبه منصرف إلى العباد، لكن كل ما توجه به الإنسان إلى غير الله عز وجل من الرغبات والخوف والرجاء فإنه نوع من الشرك، فإن وصل إلى العبادة فهو شرك جلي، أي: شرك أكبر، وعليه فالشرك درجات كما أن الإيمان درجات، والشرك شعب كما أن الإيمان شعب.