للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التعبد والتأله أمر بدهي وفطري في العبد]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فلا يزال الشيخ ابن تيمية رحمه الله يتكلم في بيان أن العبودية لله تعالى لها حقائق عظيمة، وأنها تقتضي الفطرة والغريزة التي فطر الله الناس عليها، وأن الناس لا بد أن يتوجهوا إلى من يعظّمونه ويخشونه ويرجونه، والموفق من توجه إلى الله عز وجل، لكن من الناس من يتوجه إلى غير الله عز وجل، وذلك إما بالشرك أو بالبدعة أو نحو ذلك، وهو في هذا يقرر أن العبودية تقتضيها الفطرة، وأنها نزعة عند الإنسان، وأن الإنسان إذا لم يتعبد لله تعبّد لغيره، وأن هذا الانجذاب والتأله يعتبر من الأمور التي فُطر عليها الإنسان، أو بني عليها الكون كله، لكن هذا الإنسان الذي أعطي الحرية والقدرة والإرادة، وخيّر بين الخير والشر قد يتأله ويتعبد لغير الله عز وجل، وهذا ما سيبينه الشيخ من خلال هذا الفصل، ويبين حقيقة العبودية وبعض صورها، وكذلك نتائج وثمار العبودية الحقة لله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [فصل: وهو مثل المقدمة لهذا الذي أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همّام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حي فهو كذلك له علم وعمل بإرادته، والإرادة هي المشيئة والاختيار، ولا بد في العمل الإرادي الاختياري من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب ووسائل تحصّله، فإن حصل بفعل العبد فلا بد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلا بد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلا بد من الأسباب كالآلات ونحو ذلك، فلا بد لكل حي من إرادة، ولا بد لكل مريد من عون يحصل به مراده].

يريد الشيخ بهذا أن يبين أن التعبّد والتأله -وهو من أعظم إرادات المكلفين- أمر بدهي وفطري غريزي، وأن الإنسان لا بد أن ينجذب بطبعه ما دام عنده إرادة وحرية، فهو همّام حارث، ولا بد لأي إنسان أن ينجذب بطبعه إلى ما ينفعه ويتوقى ما يضره، وهذا الانجذاب إن كان إلى الله عز وجل فهذه هي حقيقة العبودية، والتي فيها كمال العبادة وكمال الطمأنينة والأمن النفسي والروحي، والإنسان إذا كان همّه تحقيق العبودية لله عز وجل، وكان انجذاب قلبه وجوارحه إلى ما يرضي الله عز وجل فقد حقق اليقين والعمل والتوكل والاستعانة والامتثال والخضوع، ويكون بذلك قد امتثل أعلى معاني العبودية، وعند ذلك تطمئن نفسه ويرتاح قلبه، ويشعر بالأمن والسعادة في الدنيا والآخرة، وإذا انجذب إلى غير الله عز وجل وكله إلى تلك الأسباب، وإذا انجذب انجذاباً كاملاً إلى غير الله فقد أشرك، وإذا انجذب انجذاباً جزئياً بأن اعتمد أو مال إلى طلب النفع بالأسباب، فربما ينقص توحيده أو ينقص توكله، لكنه قد يقع في بدعة أو نقص في الإيمان أو رياء أو نحو ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، هذا أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان يجده في نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه.

والمستعان: منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذي يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض.

ومن المستعان ما يكون هو الغاية التي يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية في الاستعانة، ومنه ما يكون تبعاً لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع.

فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها، ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها، هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامّاً، وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقاً، وسأل غير الله مطلقاً، مثل: عبّاد الشمس والقمر وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم في النوائب.

وقد يكون خاصاً في المسلمين، مثل: من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة! إن أُعطي رضي، وإن منع سخط! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).

وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرءوساء ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هي التي تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها، والمستعان هو مدعو ومسئول.

وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل وانقاد، وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيراً ممن يحب المال، أو يحب من يحصل له به العز والسلطان].

يعني: الشيخ يق

<<  <  ج: ص:  >  >>