أعظم الناس عبودية لله أكثرهم خضوعاً له وذلاً وافتقاراً
قال رحمه الله تعالى: [فصل: والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له، كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل: بين التذلل والتدلل نقطة في رفعها تتحير الأفهام ذاك التذلل شرك فافهم يا فتى بالخلف فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو في شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يُشرك به شيء.
ولهذا قال حاتم الأصم -لما سئل: فيم السلامة من الناس؟ - قال: أن يكون شيئك لهم مبذولاً وتكون من شيئهم آيساً، لكن إن كنت معوضاً لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر، وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك.
فالرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم؟ فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة، والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها ويريدها رحمة منه وفضلاً، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريداً راحماً، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئاً إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغي لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك، فهم ثلاثة أصناف: ظالم، وعادل، ومحسن.
فالظالم: الذي يأخذ منك مالاً أو نفعاً ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك.
والعادل: المكافئ، كالبايع لا لك ولا عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين، والمتبايعين، والشريكين.
والمحسن: الذي يحسن لا لعوض يناله منك، فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق وتعظيمهم، أو التقرب إليك إلى غير ذلك، وبكل حال ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع، وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بني أمر العالم، وإما بطريق الإحسان منك إليهم، فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك، فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم وأغراضهم.
فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم، تجد أحدهم سيداً مطاعاً، وهو في الحقيقة عبد مطيع، وإذا أوذي أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجاً إليهم نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك.
والرب تعالى يمتنع أن يكون المخلوق مكافئاً له أو متفضلاً عليه ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا) رواه البخاري من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك، بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله، وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أي: بموجب علمه ذلك، فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقياً، فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق في جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله].