[أقسام الناس بالنسبة لعبادة الله والاستعانة به]
قال رحمه الله تعالى: [وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله.
فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة: فقد يكون محبوباً غير مستعان، وقد يكون مستعاناً غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران.
فإذا علم أن العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه، وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته، تبيّن أن قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] كلام جامع محيط أولاً وآخراً، لا يخرج عنه شيء، فصارت الأقسام أربعة: إما أن يعبد غير الله ويستعينه وإن كان مسلماً، فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.
وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته، من الملوك والأغنياء والمشايخ.
وإما أن يستعينه وإن عبد غيره، مثل كثير من ذوي الأحوال، وذوي القدرة وذوي السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجئون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التي بعث الله بها رسوله.
والقسم الرابع: الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعي قد ذُكر فيما بعد أيضاً، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان، لبيان أنه لا بد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام].
الأقسام الأربعة التي ذكرها، الشيخ: الأول: إما أن يعبد غير الله ويستعينه، وهذا قد وقع في الشرك؛ لأنه عبد غير الله واستعان بغير الله، لكن قد يستعين بالله عند الضرورة، وهذا لا ينفعه، وهذا كثير ما يقع فيه كثير من المشركين، فلا يستعمل الاستعانة بالله إلا عند الضرورة القصوى أو في حالة حصول الشدة، ومع ذلك يبقى على شركه.
الثاني: أن يعبد الله ويستعين بغيره، والمقصود بالاستعانة هنا ضعف التوكل على الله عز وجل، ويظهر لي أنه لا يقصد الشرك الخالص، وإنما يقصد ما يقع فيه بعض أهل البدع وبعض المفرطين الذين تستحوذ عليهم الشهوات، وهؤلاء غالباً ينسون الاستعانة بالله عز وجل، ويكثر اعتمادهم على غير الله في كثير من الأمور، وهذا يقع فيه كثير من الناس.
ثالثاً: أن يستعين بالله عز وجل وإن عبد غيره، وهذا يقع فيه كثير من عباد الصوفية والفلاسفة الجهلة، وكذلك عند بعض الذين يغلّبون جانب الشهوات أو جانب المطامع والمصالح.
رابعاً: الذين هم على الاستقامة، إذ إنهم يجمعون بين عبادة الله والاستعانة به، أي: بمعناها الكامل.
وأما قوله: (وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة)، فأيهما الغالب؟ أن العبادة تستلزم الاستعانة، فتكون العبادة هي الفاعل والاستعانة هي المفعول، وهذا الذي يظهر لي، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره خضع له وذل وانقاد وأحبه، لكن الشرع يرى أن الاستعانة تستلزم العبادة، مع أن العكس صحيح، فلو قيل: إن العبادة تستلزم الاستعانة، بمعنى: أن العبادة الحقيقية تستلزم الاستعانة صح التعبير، وإذا قلنا: الاستعانة تستلزم العبادة فربما يكون هنا أوجه؛ لأن الاستعانة الحقة لا ينتج عنها إلا حقيقة العبادة، فنقول: لو عكسنا صح ذلك، لكن ربما الشيخ قصد معنى آخر وهو ما ذكره، فجعل اللازم هو الاستعانة، والملزوم هو العبادة.