قال رحمه الله تعالى: [وفي الحديث: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، أو تذمهم على ما لم يؤتك الله) فإن اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله، وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقناً، لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك، إما ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفاً منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين.
وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يُقدّر، كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم، ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله فهو المذموم.
ولما قال بعض وفد بني تميم:(يا محمد! أعطني، فإن حمدي زين وإن ذمي شين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك الله عز وجل).
وكتبت عائشة إلى معاوية رضي الله عنه، وروي أنها رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم:(من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً) هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف:(من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً)، هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه في الدين، والمرفوع أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:٢ - ٣]، فالله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً، كالظالم الذي يعض على يده يقول:{يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا}[الفرقان:٢٧ - ٢٨]، وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم].
في الحقيقة يمكن إيجاز كلام الشيخ هنا: بأن من التمس رضا الناس بسخط الله فإن مآله وعاقبة أمره إلى الخسران، حتى وإن وجد بعض الفائدة من ذلك، لكن العاقبة لا تكون حميدة أبداً، سواء في الدنيا أو في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط، وكذلك العكس، فمن التمس رضا الله بسخط الناس فلا بد أن تكون عاقبته حميدة، وقد لا يتأتى هذا عاجلاً، وإنما يتأتى بالصبر، فالإنسان قد يرى أول الأمر شيئاً من الإعراض من الناس إذا التمس رضا الله بسخطهم، وقد يجد شيئاً من المضايقة، لكنه بالصبر لا بد أن تكون العاقبة له، إما في الدنيا والآخرة وهو الغالب، وإما في الآخرة فقط.
فإذاً العاقبة لا بد أن تكون لمن راعى حق الله عز وجل في ذلك، مع أنه بالتجربة والاستقراء نجد أن كل من صبر على أذى الناس والتمس رضا الله ولو بسخطهم، فإنه لا بد أن يجد العاقبة الحميدة في دنياه قبل آخرته، مع ما ادخره الله له في الآخرة، لكن ذلك مشروط بأمرين: صدق النية، وصدق الإخلاص مع الله عز وجل، والصبر على ما يصيبه من بلاء، وأكثر الناس قد لا يصبر، فلا تحصل له النتيجة التي يأملها؛ لأنه لم يتحقق عنده الشرط الذي ضمن الله به لمن فعل ذلك.