[خلق الله الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته والإخلاص له]
قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.
وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى.
ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله، رأس الأمر.
فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى: (يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لي، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له).
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم ألا يعذبهم).
وهو يحب ذلك، ويرضى به، ويرضى عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه، كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع.
فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:٢٢] فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلهاً حقاً؛ إذ الله لا سمي له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية.
وأما من جهة الربوبية فشيء آخر كما نقرره في موضعه].
اشتملت الآية على تقرير الإلهية والربوبية، والذين حصروها على معنى الإلهية أخطئوا، والذين حصروها على معنى الربوبية أيضاً أخطئوا، فقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢]، تعني: أنه لو كان في الأرض والسماوات وجميع الكون معبود غير الله لفسدت؛ لأن العبد لا يمكن أن يتوجه إلى إلهين، وإذا توجه إلى إلهين توزعت رغبته وتنازعت العبودية به أكثر من معبود، ومن هنا تفسد حقيقة التوجه ويفسد الإخلاص.
أيضاً: أنه لو كان هناك أحد يستحق العبادة غير الله عز وجل لكان هذا المستحق يستحق كل معاني العظمة والجلال، وهذا يتنافى مع تدبير الكون.
كذلك: كما أن الآية تضمنت على معنى الربوبية، فإنه لا يمكن أن يكون للخلق مدبر غير الله عز وجل، ولو كان هناك تدبير مع الله عز وجل في الكون لتعارض وتناقض التدبير، ومن هنا يفسد الكون.
ومفهوم الآية: أن معنى الإلهية بني على معنى الربوبية، فإن كان معنى الآية: أنه لا رب للخلق غير الله عز وجل، فكذلك لا معبود غير الله عز وجل، ولا معبود بحق إلا الله.
فإذاً: الآية قد تضمنت نفي الربوبية والإلهية عن غير الله، وهي متلازمة وتتضمن المعنيين بوضوح.
قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً، ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه].
كأنه يشير بهذا إلى أنه ما دام أن الله عز وجل قد جبل العبد على الكدح، وأنه لا بد أن يتعب وينصب في هذه الحياة، فكونه ينصب فيما يرضي الله عز وجل خير له في مآله وعاجل أمره من أن ينصب في غير مرضاة الله عز وجل، وعلى هذا فإن توجه العبد إلى الربوبية ثم توجهه إلى الإلهية توجهاً ضرورياً بمقتضى الفطرة ومقتضى الشرع ومقتضى العقل السليم؛ لأن الإنسان لا يستطيع أبداً أن يجلب لنفسه السرور الكامل في الدنيا والآخرة، ولا يستطيع أيضاً أن يسلم من الكدح والتعب والنصب إطلاقاً إلا بالتوجه إلى الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فخير له في الدنيا والآخرة أن يكدح فيما يرضي الله عز وجل، والعكس بالعكس.
قال رحمه الله تعالى: [ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص