للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الافتقار إلى الله من لوازم المخلوقين]

قال رحمه الله تعالى: [فالإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيراً إلى خالقه، وليس أحد غنياً بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته، كما قد بُسط هذا في مواضع.

والإنسان يذنب دائماً فهو فقير مذنب، وربه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه لما وَجِدَ خير أصلاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه، وهو محتاج دائماً إلى حصول النعمة، ودفع الضر والشر، ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٩] والمراد بالسيئات ما يسوء العبد من المصائب، وبالحسنات ما يسره من النعم، كما قال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف:١٦٨]، فالنعم والرحمة والخير كله من الله فضلاً وجوداً من غير أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، وإن كان تعالى عليه حق لعباده، فذلك الحق هو أحقه على نفسه، وليس ذلك من جهة المخلوق، بل من جهة الله، كما قد بسط هذا في مواضع.

والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]].

يعني: أن الله عز وجل هو الذي يوفق العبد للطاعة، ثم قد جازاه عليها وأنعم عليه بها، فالعبد لم ينتفع بنفسه، وإنما هو يفتقر إلى الله في كل الأحوال.

قال رحمه الله تعالى: [والنعم وإن كانت بسبب طاعات يفعلها العبد فيثيبه عليها، فهو سبحانه المنعم بالعبد وبطاعته وثوابه عليها، فإنه سبحانه هو الذي خلق العبد وجعله مسلماً طائعاً، كما قال الخليل عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:٧٨].

وقال: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:١٢٨].

وقال: {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} [إبراهيم:٤٠]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤]، فسأل ربه أن يجعله مسلماً وأن يجعله مقيم الصلاة.

وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:٧] الآية، قال بعدها: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:٨].

وفي صحيح أبي داود وابن حبان: (اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا)، وفي الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦]، وفي الدعاء الذي رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (مما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رءوفاً رحيماً، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين)].

<<  <  ج: ص:  >  >>