للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة الأولى: فطرية المعرفة]

مسألة: فطرية المعرفة: معناها: أن وجود الله عز وجل هو المدخل الأساسي في العقيدة، فالإيمان بالله عز وجل وبوجوده والإيمان بربوبيته وأسمائه وصفاته كل مسائل العقيدة تعود إليها، فالنبوات تعود إليها، والمعاد يعود إليها، وكل مسائل الاعتقاد ترجع إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

والإيمان بالله في ألوهيته وفي أسمائه وصفاته وفي ربوبيته الأصل السابق له هو إثبات وجوده، وإثبات وجود الله عز وجل أمر فطري ضروري عند أهل السنة والجماعة، فوجود الله عز وجل موجود في فطرة الإنسان منذ أن خلقه الله سبحانه وتعالى، ولهذا لم يكلف الله عز وجل الإنسان بإثبات وجوده؛ لأن وجوده متحقق، فلا يصح الأمر به؛ لأن الأمر به حينئذ يكون تحصيل حاصل.

والدليل على فطرية معرفة الله عز وجل أدلة كثيرة جداً، منها: قول الله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:٣٠].

فقوله: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) يعني: خلقة الله عز وجل التي خلق الله الناس عليها، من معرفته والإقرار بوجوده، وهي خلقة موجودة في الإنسان لا يستطيع التعبير عنها، لكنها موجودة في نفسه.

فالإنسان عندما يولد ويخرج من بطن أمه ليست لديه معارف تفصيلية، وليست لديه معلومات تفصيلية، فالله عز وجل أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً كما أخبر سبحانه وتعالى، لكن يوجد لدى الإنسان في نفسه خلقة هي عبارة عن معلومات أولية وأساسية، يستطيع أن يتعامل في الحياة بناءً عليها، ولهذا تلاحظ أن الطفل عندما يولد ثم يعطى الثدي يلتقمه مباشرة، وهذا يدل على أن هناك معرفة، هذه المعرفة فطرية موجودة عند الإنسان.

كذلك الإنسان يعرف الله عز وجل ويحبه ويتأله له، لكن معرفة مجملة عامة موجودة في نفس الإنسان.

أيضاً يدل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وفي رواية: إلا على هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ ثم قرأ أبو هريرة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠]).

قوله: (ما من مولود إلا ويولد على هذه الفطرة).

وفي رواية: (إلا ويولد على هذه الملة) يعني: حتى أولاد المشركين يولدون على هذه الملة.

وقوله: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: سلمانه؛ لأن الإسلام هو الأصل.

قوله: (كما تنتج البهيمة) انظر التشبيه: (كما تنتج البهيمة بهيمة) يعني: كما تلد البهيمة بهيمة، (جمعاء) يعني: مكتملة الخلقة، (لا تحسون فيها من جدعاء) يعني: لا تشعرون أنها مجدوعة، البهيمة أول ما تخرج ليس فيها جدع، والعرب قديماً كانوا يميزون إبلهم وغنمهم عن غيرهم ببعض المميزات، أحياناً بجدع الأذن مثلاً بشكل معين، وأحياناً بوضع علامة معينة، لكن عندما تخرج البهيمة من بطن أمها لم تكن هذه العلامة موجودة فيها.

وأيضاً جاء في حديث عياض بن حمار المجاشعي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم).

فقوله: (إني خلقت عبادي حنفاء) يعني: خلقتهم على الحنيفية، والحنيفية السمحة هي دين إبراهيم، والحنيف في اللغة: هو المائل، والمقصود هنا: المائل عن الشرك.

فالحنيفية في اللغة العربية هي من ألفاظ الأضداد، يعني: اللفظة التي تستخدم في معنيين مختلفين متناقضين، فالحنيف تستخدم في المعتدل والمنحرف، مثل: السدفة تستخدم في الظلمة والنور، ومثل: بصير تستخدم للأعمى والمبصر، ومثل: مفازة تستخدم للصحراء المهلكة وللنجاة أيضاً، ونحو ذلك من التي يسميها العلماء ألفاظ الأضداد، يعني: اللفظة التي تستخدم في أضداد متقابلة.

فقوله: (إني خلقت عبادي حنفاء) جاء في رواية لـ ابن حبان: (حنفاء مسلمين) وهذه صححها الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد.

قال: (إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم) وهذا يدل على أن الله عز وجل خلق الناس وهم يعرفون وجود الله عز وجل ويؤمنون به، لكن هذه المعرفة معرفة مجملة، وتنمو هذه المعرفة في نفس الإنسان مع نموه، والرسل الكرام برسالاتهم ينقحونها وينمونها ويأتون بما تقتضيه، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى.

ولهذا كل الأدلة الواردة في القرآن والسنة في مسائل التوحيد جاءت لتقرير مسألتين مهمتين: المسألة الأولى: إفراد الله عز وجل بالعبادة.

المسألة الثانية: إثبات المعاد والجزاء يوم القيامة.

فكل القضايا التي جاءت في القرآن جاءت من أجل تقرير المسائل العقلية والحجاج مع الكفار؛ لأن

<<  <  ج: ص:  >  >>