[البعث والحساب]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:٥٥]].
وهذه الآية فيها تقرير لثلاث حقائق، قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه:٥٥] فيه تقرير أن الله عز وجل الخالق، وقوله: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:٥٥] فيه تقرير الحقيقة الثانية وهي الموت والانتقال إلى دار البرزخ، وقوله: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:٥٥] فيه حقيقة ثالثة وهي البعث.
[وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:١٧]].
هذه تشبه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه:٥٥].
[{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} [نوح:١٨]].
هذه تشبه {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:٥٥].
[{وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:١٨]].
مثل {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:٥٥]، والقرآن مثاني يصدق بعضه بعضاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:٣١]، ومن كذب بالبعث كفر].
لا ريب أن المكذب بالبعث كافر؛ لأنه مكذب للقرآن، فالقرآن أخبر بأن الله عز وجل يبعث من في القبور، وهو ينفي ذلك، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:٧].
وقد قرر الله عز وجل حقيقة البعث في القرآن بأدلة عقلية برهانية لا تقبل الشك، ومن ذلك الاستدلال بالخلق الأول، وأن الله عز وجل خلق الإنسان فهو قادر على إعادته.
ومنها: خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧]، فإذا كان خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ونحن نعترف بأنه خالق السماوات والأرض فإعادة الناس وخلقهم مرة أخرى للبعث ليس أمراً صعباً، فمن قدر على الكبير قدر على الصغير.
من الأدلة أيضاً: إحياء الأرض بعد موتها، وهذه كثيراً ما تستخدم في القرآن، ومنها قوله تعالى: {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:٣٩]، والمقصود إثبات البعث في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:٣٩].
ومن الأدلة: الوقائع التاريخية الثابتة في إحياء بعض الموتى الذين ماتوا في الدنيا مثل: إحياء الإسرائيلي الذي قتل عندما ضرب بجزء من البقرة، ومثل: إحياء عزير أيضاً بعد أن أماته الله مائة سنة، ومثل: إحياء الطير عندما أمر إبراهيم بتقطيع الطير ووضعه على ثلاثة جبال كما هو معلوم في سورة البقرة، وإحياء عيسى عليه السلام للموتى.
والنوع الخامس: الاستدلال بصفات الله تعالى، فإن الله حكيم، لا يمكن أن يترك الخلق في هذه الدنيا يتفاوتون تفاوتاً تاماً فهذا غني وهذا فقير، وهذا قوي وهذا ضعيف، وهذا ظالم وهذا مظلوم، وهذا خلقه مريضاً سقيماً متعباً ظروفه صعبة، وهذا له مال وجاه وصحة، وهذا عاص وهذا طائع، فلا يمكن أن تكون هذه الدار الموجود فيها كل هذا التفاوت هي دار المستقر النهائي، ونحن نعرف من معايشتنا للحياة أن طبيعة هذه الحياة لا يمكن أن تكون نهائية؛ لأن الفناء موجود في كل شكل من أشكالها، فهو موجود في بقاء الإنسان؛ لأنه يفنى ويموت، وموجود في هذه الحياة التي تتبدل وتتغير بشكل كبير، فحكمة الله عز وجل تقتضي أن يبعث الناس ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه، ويجازي فيه المسيء بإساءته، ويعوض فيه من فقد شيئاً من أهل الإحسان.