للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبيان بعض ما يتعلق بالهجرة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفرضت عليه الصلوات الخمس وصلى في مكة ثلاث سنين].

أي: كانت الصلوات التي كان يصلونها دون أن تكون فريضة، وإنما يصلون في أوقات مختلفة ومتعددة دون أن تكون قد فرضت عليه، ثم فرضت عليهم الصلوات الخمس وبعدها أمر بالهجرة، والهجرة: مأخوذة من الهجر، والهجر: هو الترك والابتعاد، وهجرته صلى الله عليه وسلم: هي انتقاله من مكة إلى المدينة، وقد أمر بالهجرة قبل ذلك إلى الحبشة عندما أوذي أصحابه، والهجرة تكون واجبة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا لم يستطع الإنسان أن يقيم دينه في بلاد الكفر، فإن استطاع أن يقيم دينه فتكون مستحبة وليست بواجبة.

[والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام].

وكلمة بلد الشرك وبلد الإسلام عبر عنها الفقهاء بدار الكفر ودار الإسلام، وهذه المصطلحات ليست مصطلحات واردة في القرآن والسنة، وإنما هي مصطلحات ذكرها الفقهاء وتعارفوا عليها لبيان البلاد التي توصف بأنها بلاد إسلام، والبلاد التي توصف بأنها بلاد كفر، والضابط الشرعي في مثل هذا الأمر هو بالنظر في مجمل الأحوال، والأحكام الموجودة في هذه البلاد، فإذا كانت هي أحكام الإسلام، الناس أكثرهم مسلمون، والشعائر الإسلامية ظاهرة كالصلاة والصيام والحج والاستسقاء والكسوف ونحو ذلك من الشعائر، فإن كان هذا حاله فهو بلد إسلام، وإن لم يكن كذلك فإنه لا يعتبر بلد إسلام، وإذا كانت شعائر الكفر هي الظاهرة والأحكام التي يحكم بها هي أحكام الكفر فإن هذا يكون بلد كفر، وهذه المسألة واضحة وليست محل اشتباه وفيها أشياء محل اشتباه، من الأمور الواضحة التي ليست محل اشتباه هو أن البلاد التي يحكم فيها بما أنزل الله والناس يقومون فيها بالأعمال الصالحة حتى لو وقع فيها ذنوب ومعاصٍ فبالإجماع أنه دار إسلام، وأن البلاد التي هي من بلاد الكفار والأحكام التي فيها أحكام الكفر وأغلب أهلها من الكفار فإنها بلد كفر دون إشكال، ووقع الإشكال في حالات معينة وهي: إذا كان حكام البلد من المسلمين وغلب على أهله أنهم كفار من أهل الذمة يدفعون الجزية، فيعتبر هذا بلد إسلام كحال خيبر التي حكمها المسلمون وعامة أهلها من اليهود وكانوا يدفعون الجزية، وهي بلد إسلام لأن الحكم فيها للإسلام، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

وهناك حالة ثانية معاكسة وهي أن يكون أغلب أفراد البلد من المسلمين، لكن تسلط عليهم حاكم غير مسلم وحكم فيهم بغير ما أنزل الله، فتكون بحسب الأعمال، فإذا كانت المساجد منتشرة وموجودة والناس تصلي وتقوم بالأعمال الشعائرية الواجبة فهذه بلاد إسلام حتى ولو كان هناك قوانين وضعية تطبق على الناس؛ لأن العبرة بالأغلب، والأغلب هو وجود المسلمين، علماً أنه لا يترتب على هذه الأوصاف أحكاماً شرعية إلا في حالات قليلة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام].

والضابط في كون الهجرة واجبة إذا لم يستطع أن يقيم دينه فيها، فلو أن بريطانياً أسلم فلا نوجب عليه الهجرة إلى بلاد المسلمين؛ لأنه يستطيع أن يقيم دينه فيصلي ويصوم ويحج دون إكراه، فهي ليست واجبة وإنما هي مستحبة، ولا تكون واجبة إلا إذا ما استطاع أن يقيم الدين، وهذا مثل حالة البلاد الشيوعية في زمن الاتحاد السوفيتي عندما كانوا يحاسبون الناس على أعمالهم، فالذي يصلي يقتل، والذي يقرأ القرآن أو يحتفظ بنسخة منه يسجن وهكذا، فهؤلاء كان يجب عليهم أن يهاجروا من هذه البلاد التي لا يستطيعون أن يقيموا فيها دينهم، لكن إذا كانت البلاد تتيح الحريات بحيث إنه يستطيع أن يمارس دينه فلا نوجب عليهم الهجرة إلى بلاد المسلمين، أما حكم الهجرة من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر فالأصل الشرعي هو أن المسلم يبقى في بلاد المسلمين مع ما فيها من الخلل ومع ما فيها من الذنوب والمعاصي، ويجتهد في الدعوة والإصلاح لترتفع الأمة وتنمو، لكن إذا ما استطاع وأوذي في دينه فيجوز له أن يهاجر حتى ولو كانت الهجرة إلى بلاد كفر، والدليل على هذا أن الصحابة هاجروا من بلاد كفر وهي قريش إلى بلاد كفر وهي الحبشة لكن يدل على أنه يجوز للإنسان أن يذهب إلى بلاد كفر يستطيع فيها أن يقيم دينه إذا لم يستطع أن يقيمها في بلاده، لكن الواقع هو أن كثيراً من الأقليات الإسلامية التي تخرج من البلاد الإسلامية إلى الدول الغربية تخرج بدافع تحسين وضعهم الاقتصادي وليس الهدف المحافظة على الدين وهذا هو الغالب، فنقول: إذا استطاع أن يحافظ على دينه، وإذا استطاع أن يكون بعيداً عن الشهوات المحرمة والشبهات المضلة وكان ممن يستطيع أن يدفع الشبهة ويدفع عن نفسه الشهوة المحرمة واستطاع أن يحافظ على أسرته، فإذا كانت هذه الضوابط موجودة فإنه يجوز أن يذهب إلى تلك البلاد الكافرة للعمل، لكن لا يبقى فيها بشكل دائم ومستمر إلا إذا كان هناك أهداف أخرى كالدعوة والإصلاح والعمل الخيري فإن هذا لا شك أنه يكون من العمل الفاضل والعمل المبارك، وهناك مبحث للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في شرحه للأصول الثلاثة في

<<  <  ج: ص:  >  >>