[موقف الصحابة من العقيدة وآثارها عليهم]
تبدو العقيدة مهمة جداً، ولها آثار عظيمة جداً في نفسية الإنسان، فإن من كانت عقيدته قوية كان قلبه قوياً، وكان إيمانه قوياً، ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون هذه العقيدة وهذا الدين بجد واهتمام، ولا يأخذونه بشكل عرضي، ولا يأخذونه بشكل تقليدي، وإنما يأخذونها أخذاً جاداً، ويلتزمون بمعناها ومقتضاها، ويجتهدون في تحقيقها في واقع الأرض، ولهذا ماتوا من أجلها في سبيل الله، ورغبوا عن الدنيا إذا كانت الدنيا في مقابل هذه العقيدة، وفتحوا بها الأمصار، واستطاعوا أن يخضعوا أمم الأرض بهذه العقيدة، وتميزوا عن غيرهم بها، وأصبحوا قادة للدنيا مع أنهم كانوا قبل هذه العقيدة أعراباً ليس لهم أي قيمة وليس لهم أي مكانة، ولهذا تعجب منهم ملوك الأرض مثل كسرى وغيره، فقال لهم: كنتم مجموعة من الأعراب لا نشتغل بقتالكم نحن، وإنما نرسل عليكم بعض عمالنا في الأطراف، واليوم أصبحتم تهددون فارس! فبين له ربعي بن عامر أن الله عز وجل ابتعث إليهم رسولاً ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ويخرجهم من التعبد للأشخاص والدول الطاغوتية إلى الحرية الحقيقية، وهي العبودية لله عز وجل وحده، والتحرر من قيد العبودية للإنسان، فإن التعبد لله عز وجل من أهم الواجبات، لأن الله عز وجل خلق الإنسان على هيئة وكيفية ترتاح وتنشرح بالتعبد لله عز وجل، وتذل وتشقى بالتعبد لغيره.
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في رسالته العظيمة (العبودية) قاعدة عظيمة، قال: إن الإنسان لا بد أن يكون عبداً، إما أن يكون عبداً لله عز وجل، وإما أن يكون عبداً لغيره وهواه، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣] فالإنسان لا بد أن يكون عابداً، هكذا خلق الله عز وجل الإنسان، وخلقه يلتذ ويرتاح ويطمئن لعبادة الله عز وجل، ويشقى ويضل وينحرف بعبادة غيره.
فالله عز وجل يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤] فهو سبحانه وتعالى يعرف المخلوق الذي خلقه وأنزله على ظهر هذه الأرض، ولم يتركه هملاً وعبثاً، وإنما كلفه برسالة عظيمة وهي تحقيق مرضاة الله عز وجل في هذه الأرض، وجعل له أعداء وخصوماً، وأمره أن يواجه هؤلاء الأعداء والخصوم، وجعل له من يؤذيه، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما بايع أصحابه يوم العقبة قام سعد بن عبادة رضي الله عنه وقال: (يا معشر الأنصار! هل تعلمون على ماذا تبايعون هذا؟ إنكم تبايعونه على محاربة الأحمر والأصفر).
يعني: أنكم تبايعونه على مفارقة الأهل، ومفارقة الأوطان، ومفارقة العادات والتقاليد، وعلى قضايا كبيرة ليست قضايا هينة، لكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون على أي شيء يبايعونه.
وهذه العقيدة عندما يأخذها الإنسان بجد فإنه سيكون له بطبيعة الحال أعداء، أحياناً يكون هؤلاء الأعداء من الكفار من اليهود والنصارى والملاحدة، وأحياناً يكون هؤلاء الأعداء من المنافقين، وأحياناً يكون هؤلاء الأعداء من أصحاب الشهوات، ولا بد أن يكون له أعداء، وإذا ظن الإنسان أنه بإمكانه أن يلتزم بهذه العقيدة التزاماً جاداً صحيحاً دون أن يكون له خصوم وأعداء، فإنه لم يعرف هذه العقيدة، وسيأتي معنا الإشارة لهذا المعنى بإذن الله تعالى في كتاب (كشف الشبهات) بإذنه تعالى.
إذاً: هذه العقيدة تجعل الإنسان قوي القلب بالله عز وجل، وتجعل نظرته إلى الدنيا على أنها متاع زائل، وعلى أنها وسيلة وليست غاية، ولهذا يقدم نفسه رخيصة في سبيل الله، ويجتهد في أن يكون عمله ابتغاء مرضاة الله عز وجل، ومهما حصل له في هذه الدنيا من الفتن والمصائب والمحن والمشكلات، فإن هذا لا يرده عن دينه.
وأحياناً تكون الفتنة بالسراء مثل: كثرة الخير والنعمة مثلاً، وأحياناً تكون الفتنة بالضراء، مثل: الفتنة بالمصيبة وبالمرض وبالاضطراب وبالبعد عن الأمن ونحو ذلك، لكن المسلم صاحب العقيدة الصحيحة يتعامل مع كل هذه الظروف بطريقة سليمة، فيحافظ فيها على دينه واستقامته والتزامه بهذه العقيدة حتى يموت؛ لأن الإنسان في هذه الدنيا لن يستمر إلى الأبد، هذه من الحقائق العقدية الأساسية المهمة التي قررها القرآن كثيراً، وعندما تقرأ في كتاب الله عز وجل تجد الخصومة الكبيرة مع الكفار، وتجد أن الكفار لا يمكن أن يتركوك، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:١٢٠].
وتجد أن المنافقين لن يتركوا صاحب العقيدة، وأنه سيقع عليه الأذى والمشقة، وستقع عليه كثير من الأمور المزعجة، لكن يحتاج إلى الصبر، ويحتاج إلى الاعتصام بالله سبحانه وتعالى، ويحتاج أن يستشعر أن هذه العقيدة خير له، وأن الموت عليها خير له من العيش الرغيد على الانحراف والضلال والعياذ بالله؛ لأنه لا خير في هذه الدنيا