فقال الرشيد: أو قد فعل. فتجهز من يومه، وسار إلى حربه، فذل نقفور وأطاع.
[١٥]
تفانوا ملكة الروم وهي زوجة أرمانوس ملك الروم
كانت من أهل الشجاعة والبراعة، ومن شجاعتها وشدة براعتها، قتلت زوجها أرمانوس، وكان لها منه ولدان أحدهما بسيل والآخر قسطنطين، ثم تزوجت بعد أرمانوس بالملك نقفور، وأقام بالملك وطغى وتجبر، وغزا بلاد المسلمين وقتل ونهب وسلب وأعطب، ثم أن نقفور طمع بالملك، وأراد أن ينقل الملك بعده إلى عقبه فهم بقتل ولدي تفانوا زوجته، وقيل: بل أراد أن يخصيهم ليقطع نسلهم، فبلغ ذلك زوجته فاتفقت مع الدمستق على قتل نقفور، فألبست الدمستق لباس النساء وأدخلته مع النساء إلى كنيسة متصلة بدار نقفور، وانتظروا نقفور حتى نام، فهجموا عليه وقتلوه، وأراح الله المسلمين من شره، ثم تزوجت تفانوا بالملك يانس بن شمشيق، وولته الملك، ثم إنها خافته فأرستله مع جيش عظيم إلى بلاد الشام فغنم وسبى، وقتل وأسر، ثم دست عليه زوجته تفانوا من سقاه سماً فمات يانس ولم تطل مدته، ثم ملكت بعدها ولدها بسيل سنة سبع وستين وثلاثمائة، وأقام بالملك وحاصر حمص وفتحها سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وكذا شيزر، ثم سار إلى طرابلس وحاصرها أياماً، ثم [رحل] عنها إلى بلاد الروم. وقام بالملك خمسين سنة، ومات سنة ست عشرة وأربعمائة.
ونظير ذلك ما حكاه لي رجل من طائفة العسكر، قال كنا يوماً في نواحي الشام من جهة القدس، فرأينا ديراً فقصدناه ودخلنا إليه ونزلنا فيه، وكان في الدير رهبان، وكنت مقدم العسكر، فسألت الرهبان عن كبيرهم، فأنكروه، فجعلت أدور في مقاصير الدير، فسمعت صوتاً ضعيفاً من داخل حجرة هناك، فقصدت الصوت حتى انتهيت إلى باب نغلق، وذلك الصوت يخرج من هناك، فأصغيت له سمعي، فإذا صوت قراءة القرآن، فقرعت الباب، فسكت وقال من هذا؟ قلت أنا، مقدم العسكر. فعند ذلك فتح الباب، ودخلت عليه، وقلت له لقد رابني أمرك أنت كبير النصارى وقد سمعت عندك صوت قراءة القرآن، فأقسم علي أن لا أظهر أمره بين النصارى، وقال الحمد لله أنا مؤمن أصلي الخمس وأصوم رمضان وأقرأ القرآن، وأنا ليلي ونهاري، مختف عن الكفار لئلا يطلعون على أحوالي، فبحق محمد صلى الله عليه وسلم وبحق هذا القرآن لا تفضحني عند عبدة الصلبان، فخرجت من عنده ولم أعلم بحاله أحداً من النصارى، غير أني سألت أهل العلم من المسلمين عن حال هذا الرجل، فقالوا أما سمعت قوله تعالى ( ... منهم قسِّيسينَ ورهباناً ... ) .
وعلى ذكر ما فعله نقفور من أنه أراد أن يخصي ولدي زوجته حضرني: أن ملكاً من الملوك كتب إلى عامله بالمدينة المنورة كتاباً فيه: أحصى المخنثين وأرسله إليه، وكان من تقدير الله أن ذبابة وقفت على حاء، أحصي، وذرقت ولم يشعر الكاتب، فلما وصل الكتاب إلى العامل وقرأه وجد فيه: أخصي المخنثين. فجمعهم وخصاهم كلهم فكانوا يمرون بالأزقة ويسألهم الناس عما أصابهم، فيقول احدهم: هذا نوع من السلاح، وإني لا أقدر أضرب به. والآخريقول: نحن في الصيف، ولا نحتاج إلى مزراب. وبلغ ذلك الملك فأرسل يعتب عامله، فأرسل له الكتاب، فقرأه ووجد فيه أخصي، فعاتب الكاتب فاعتذر إليه، ومرر إصبعه على النقطة فانقلعت، فعلم أنها ذرق الذباب.
[١٦]
عزة بنت حميل
كانت من أحسن نساء زمانها، تزوجها رجل من بني عمها، وحظيت عنده، فاتفق يوماً أن عبد الرحمن المعروف بكثير رأى عزة فشغف بها وهام وأسقمه الغرام، ولم يمكنه الوصول إلى الحرام، وكان كثير شيعياً وجعل ينظم الأشعار ويتغزل بعزة، ودام على هذا أعواما فاتفق يوماً انه رأى عزة وهي خارجة من الحي، فجعل يتلطف بها، ويشكوها الغرام، فوقفت رحمة له، وجعل يخاطبها فرأته ينظر إلى ظهر كفها، فقالت له: مه يا كثير لا تفسد بي بيننا المحبة، وفرقته.
قيل أن عزة دخلت يوماً على أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز، فقالت لها أم البنين: ما معنى قول كثير: مفرد:
قضى كلٌ ذي دينٍ غريمه ... وعزَّةُ ممطولٌ معنَّى غريمها؟