كان أبوها قد قتله جذيمة الأبرش، وكان له من البلاد من غزة إلى تدمر، فملكت بعده ابنته الزباء، ولم يكن له ذكر، ولما استحكم أمرها جعلت تطلب ثأر أبيها، وعزمت على قتاله، فأشارت عليها أختها بترك القتال، ونصب حبال الاحتيال، فكتبت الزباء إلى جذيمة تخطبه إلى نفسها. وتملكه ملكها، فطمع في ذلك جذيمة، فجمع أرباب دولته وشاورهم بذلك، فقالوا كلهم: سر إليها، وتزوجها واملك بلدها، وكان بهم قصير بن سعد فنهاه عن ذلك، وذكر قتل أبيها وخوفه من غدرها. فأبى جذيمة وخالف قصيراً ثم جمع أرباب دولته، وسار بهم إلى بلاد الزباء، فلما قرب من القوم، قال له قصير: اركب فرسك العصا، فإن رأيت القوم على حذر فاهرب، فأبى جذيمة، فركبها قيصر، وساروا فتلقتهم المواكب، وتقدم جذيمة، وقد أحاط به القوم، فهرب قصير وقطع أرضاً بعيدة ونجا، وأدخل جذيمة على الزباء، فتكشفت له، فإذا هي مضفورة الأسب، وهو شعر الأست وقالت له: (أدب عروس ترى؟ فصارت مثلاً، ثم قالت له: أنبئت أن دم الملوك شفا من عضة الكلب الكلب، فأجلسته على نطع، وأحضرت طشتاً من ذهب، وفصدت جذيمة حتى هلك ومات، وقتلت أصحابه، ثم إن الزباء خافت من عمرو بن عدي فصدرت صورته عندها، وبنت له قصراً ينزل إليه من مجلسها، وهو دهليز عميق، ثم يصعد إلى قصر عال منه، حذراً من عمرو لأن الكهان حذروها منه، وأما قصير فإنه وصل إلى عمرو، وأخبره بقتل خاله جذيمة ثم أمره أن يجدع أنفه ويضرب ظهره، فأبى عمرو، فجذع قصير أنفه، وخرج من عند عمرو كأنه هارب، وقدم إلى الزباء، ودخل عليها فوجدت عليها فوجدت قد جدع أنفه، فقالت:"لأمر ما جذع قصير أنفه"فصار مثلاً، ثم سألته عن حاله، فأخبرها أن عمرو فعل به هذا فأكرمته وجربته وقربته، وبقي إلى أن علم أنها وثقت به فقال لها يوماً: إن لي مالاً بالعراق فأحب أن آتي به. فسيرت معه عيراً وسار حتى قدم إلى العراق والتقى مع عمرو متخفياً، أمر عمرو أن يجهز له أموالاً في البر، ففعل عمرو فأخذ قيصر الأموال، وعاد إلى الزباء، فأعجبها وازدادت به حباً وثقة، ثم جهزيه مرة ثانية ففعل كذلك، ووثقت به فسار ثالثاً، وقدم إلى عمرو، وأشار عليه أن يعمل ثمانين صندوقاً ويترك في كل صندوق رجلاً، ويكون عمرو في إحدى الصناديق، ففعل وجعل قصير يتفقد الرجال، وينزل لهم الطعام، والصندوق يفتح من داخل، ففعل عمرو، وحملهم قصير إلى عند الزباء، وأرسل أمامه مبشراً بقدوم الصناديق، يأمرها أن تخرج إلى لقائه لتبصر ما حمل من الأمتعة، والأموال، فخرجت الزباء وأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض مما عليها، فقالت الزباء: شعر
ما للجِمَالِ مَشْيُهَا رُوَيْداً ... أَجِنْدَلاً يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيداً
أًمِ الرَّجالَ في الغِرَارِ السَّودَا ... أَم الرَّجَالَ بُرَّكاً قُعُوداً
ودخلت الإبل المدينة، فلما توسطوا البلد خرجت من (الصناديق) الرجال، وفي أوائلهم عمرو، فهربت الزباء، فتبعتها عمرو، فأكلت الزباء سماً كان عندها، وأتبعها عمرو بضربة بالسيف وماتت، وملك عمرو المدينة ودان له الخلق وذكر في"مختصر المؤيد": أن الزباء لما ملكت بعد قتل أبيها، بنت على الفرات مدينتين متقابلتين، ثم أخذت في الحيلة على جذيمة وقتلته، وذكر من أثق به أنه رأى المدينتين اللتين عمرتهما الزباء وهما خراب. وقصر الزباء على مرتفع قد أشرف على الهدم، وهما على الفرات متقابلتين، وذكر في "تاريخ ابن الوردي": أن قصيراً لما جدع أنفه سار إلى عند الزباء، كأنه مغاضب وجعل يتجر لها، يأخذ الأموال من عمرو ويظهر أنها ربح تجارته، فأتى إليها يوما بقافلة نحو ألف حمل كلها، صناديق مقفلة من داخل، وفيها أبطال فارتابت الزباء منها، وقالت: شعر
ماللجمال سيرها وئداً ... أجندلاً تحمل أم حديداَ
أم زخرقات بادر صديدا
فقال قصير:
بل الرجال بركا قعودا
ولم دخلوا الحصن ملكوه، وقتلوا الزباء وأخذ بثأر جذيمة قصير.
وذكر ابن الجوزي في كتاب "الأذكياء": أن قصيراً ابن عم جذيمة. وفي "صحاح الجوهري": هو صاحب جذيمة الأبرش وقيل: هو من بني لخم، والله أعلم.