وعن أم أيمن قالت: كنت أحضن النبي صلى الله عليه وسلم فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلا بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول: يا بركة، قلت لبيك، قال أتدرين أني وجدت النبي؟ قالت: لا أدري! قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فإن أهل الكتاب يزعمون أنه نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم، وقالت أم أيمن: ما رأيته صلى الله عليه وسلم يشكو جوعاً ولا عطشا لا في صغره ولا في كبره، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغذاء فقال: أنا شبعان. وقيل: إن أم أيمن هاجرت في يوم حر شديد فأصابها عطش شديد، فتدلى لها دلو من السماء برشاء أبيض فشربت منه حتى رويت، قالت: فما أصابني عطش بعدها، ولو تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر. وكان في لسانها عسرة فكانت إذا دخلت على قوم قالت: سلام لا عليكم بدل سلام الله عليكم. فرخص لها صلى الله عليه وسلم أن تقول: سلام عليكم. وقيل: إن أم أيمن هاجرت مع رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهي زوجة عثمان رضي الله عنه وذكر في "السيرة الحلبية" أن أم أيمن هاجرت الهجرتين. وكان صلى الله عليه وسلم يقول:"أم أيمن أمي بعد أمي" وكان صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها، وكذلك كان يفعل الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه بعده صلى الله عليه وسلم يزورانها في بيتها تعظيماً لها، ولما مات زوجها عبيد زوجها النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة. قيل: إن أناساً من كليب قدموا إلى الحج، فرآهم زيد وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا أهلي هذه الأبيات:
أحنُّ إلى قومٍ، وإن كنتُ نائياً ... فإنّي قعيدُ البيت عندَ المشاعرِ
فكفّوا عن الوجدِ الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرضِ نصَّ الأباعرِ
فإنّي بحمد الله في خير أسرةٍ ... كرامِ ومعدٍ كابراً عن أكابرِ
فأعلموه أباه فقدم مع عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فيه فقال صلى الله عليه وسلم نخيره فإن اختاركم علي فهو لكم فخيره فاختار النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبوه: ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية؟ فخرج صلى الله عليه وسلم وجعل يدور به مجالس قريش ويقول: اشهدوا أن زيداً ابني وارثاً وموروثاً، فطابت نفس أبيه ودعي زيد من حينئذ ابن محمد، إلى أن جاء الإسلام، وأنزل قوله تعالى:(أدعوهم لآبائهم) فقيل: زيد بن حارثة. ويقال أنه أول من أسلم وشهد بدراً. وكان صلى الله عليه وسلم يقول:"أحب الناس إلي من أنعم الله عليه وأنعمت عليه" يعني بذلك زيداً، أنعم الله عليه بالإيمان، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق، وقتل زيد رضي الله عنه بأرض الشام. وقتل معه جعفر رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم:"أخواي ومؤنساي ومحدثاي" وعاشت أم أيمن بركة إلى خلافة عمر رضي الله عنه سنة ثلاثة عشرة، وتوفيت أم أيمن بعد خلافة عمر رضي الله عنه بعشرين يوماً، ودفنت بالمدينة المنورة، وتوفيت أم أيمن رضي الله عنها، على ما ذكر المؤرخون في خلافة الصديق رضي الله عنه وذلك بعد وفاة فاطمة الزهراء رضي الله عنها. وذكر بعضهم أن أم أيمن كانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم لا مرضعته، لأنه لا يعرف لها ولد إلا أيمن وأسامة، إلا أن يقال أن لبنها در له صلى الله تعالى عليه وسلم، ويروى أن أم أيمن شربت بوله صلى الله عليه وسلم ولم تشعر به لأنه لم يكن كالمعهود، ولما أخبرته ضحك ولم ينكر عليها. وقال لها:"أما والله لا تجعن بطنك أبدا" ويروى أن أم أيمن لما كانت غزوة أحد، وهي في المدينة، فلما هرب المسلمون ودخل المدينة طائفة منهم تلقتهم أم أيمن، وجعلت تحثو التراب في وجوههم، وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك، ويروى أن أم أيمن كانت في الجيش تسقي الجرحى فرماها الحبان بن عرفة بسهم فأصابها، فشق ذلك على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدفع إلى سعد سهماً لا نصل له وقال: ارم به فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى بدت نواجذه ثم قال:"استقاد لها سعد أجاب الله دعوته".