واسمها آمنة، ولقبها جدها المنصور زبيدة لبياضها ونضارتها تزوجها الخليفة هارون الرشيد، فولدت له الأمين، وكانت صاحبة معروف وخير، وكان لها مائة جارية يحفظن القرآن، وكانت قد شرطت على واحدة تقرأ عشرة أجزاء فكان يسمع في دوي كدوي النحل من قراءة القرآن، وأجرت عين ماء من مكة عشرة أميال تحت الجبال والصخور حتى أدخلته من الحل إلى الحرم، وقالت: لو كيلها لما اشتكى كثرة الإنفاق، اعمل ولو ضربت الفأس بدينار، وهي باقية إلى الآن عن يمين الذاهب إلى منى، هكذا ذكره اليافعي، وقيل: إنها بنت حائطاً من بغداد إلى مكة، وحفرت آبار في كل مرحلة، وقيل: حائطين بحيث كان الأعمى إذا أراد الحج لمس الحائط وسار. وإذا عطش شرب من الآبار ولا يقربه شيء من الحيوانات والأسود لأن الطريق محصن بالحيطان، ولها صدقات كثيرة، وعاشت بعد زوجها الرشيد نحو عشرين سنة. ولما توفي الرشيد سنة ثلاث وتسعين ومائة في مدينة طوس، عهد بالخلافة لولده الأمين بن زبيدة، وكان منهمكاً على شرب وجمع المغاني وقسم الجواهر على النساء لشغفه بهن، واشترى عربية المغنية بمائة ألف دينار، واشترى جارية ابن عمه إبراهيم بعشرين ألف دينار، وفيه يقول الشاعر:
إِذَا غَدَا مَلِكاً بِالَّلهْوِ مُشْتَغِلاً ... فَاحْكُم عَلَى مُلْكِهِ بِالوَيْلِ وَالخَرَبِ
أَما تَرَى الشَّمْسَ فيِ المَيْزَانِ هَابطَةُّ ... لمَّا غَدَا وهُو بُرْجُ اللُّهوِ والطرب
ولما استقر بالخلافة خلع أخاه المأمون وكتب إليه شعراً:
يَا بْن الّذي بِيعَتْ بِأَبْخَسَ قِيمَةٍ ... بَيْنَ الوَرَى فيِ سُوقِ هَلْ منْ زَايِدِ
ما فيكَ مَوْضعُ غُرزًةٍ من إِبرةٍ ... إِلاَّ وَفيهِ نُطْفَةٌ من واحدِ
وكان الأمين يفتخر بأمه زبيدة، فأجابه المأمون.
وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ الَّناسِ أَوعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وللإِماءِ آباءُ
فَرُبَّ مُعْرِبةٍ ليْسَتْ بمُنْجِبةٍ ... وَطَالَ مَا أَنْجَبَتْ في الخدْرِ عَجْمَاءُ
ثم إن المأمون حارب الأمين، وقتله سنة ثمان وتسعين ومائة. وبويع بالخلافة المأمون فاتفق أنه مر يوماً على زبيدة فرآها تتكلم ولا يفهمه، فقال: يا أماه أتدعين علي؟ قالت: لا. فألح فقالت: قبح الله اللحاح. فقال لها: كيف؟ قالت: لعنت يوماً مع أبيك بالشطرنج، على شرط، فغلبني فجردني من ثيابي وطاف بي القصر وأنا عريانة، ثم عاد إلى اللعب فغلبته فأمرته أن يذهب المطبخ يطأ أقبح جارية فيه، فرضي فلم أجد أقبح من أمك ولا أقذر منها فواقعها فحملت من بك، فكنت سبباً لقتل ولدي، فسكت المأمون وذهب وهو يقول: لعن الله اللحاح قتل الأمين، وتوفيت زبيدة سنة ست عشرة ومائتين.
حكي أنه رآها في المنام بعض الصالحين، فقال لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لي، قال: بما غفر لك؟ قالت: كنت جالسة يوماً وعندي جوار يغنين، فسمعت صوت المؤذن يؤذن فأمرتهم بالسكوت إلى أن تم الآذان، فغفر لي بذلك. ونظير ذلك ما حكي أن أبا نواس لما توفي رآه رجل في المنام، فقال له: ما هي؟ فقال. شعر.
تأمَّل في رِيَاضِ الأرضِ وانظُر ... إلى آثارِ مَا صَنعَ المليكُ
عُيُونٌ من لجينٍ شاخصاتٌ ... على أحدا قها الذهبُ السبيكُ
على قصب الزبرجد شاهداتٌ ... بِأَنَّ اللَّه ليس له شريكُ
وحكي أن الرشيد العباسي طرقه ذات ليلة قلق وسهر، فدار على جواريه، ودخل على بعضهن، وهي نائمة فكشف عن وجهها وقبلها فانتهيت فزعاً، وقالت: من هذا فقال الرشيد: ضيف. فقالت الجارية: نكرم الضيف بسمعي والبصر، فلما أصبح الرشيد استدعى أبا نواس، قال له: أحب أن تضمن لي هذه هذا الشطر، وقرأه عليه، فقال: حباً وكرامة، وأنشد:
طَالَ لَيليِ وعاوَدَني السَهَرْ ... ثمَّ فكَّرتُ وأَحسنْتُ النَظرْ
جِئْتُ أَمشِي في زَوَايَاتِ الَخَبا ... ثمَّ طَورَاً في مقاصيرِ الَحجَر
إِذْ بِوَجهِ قَمَر قَدْ لاحَ لِي ... زَاَنهُ الرَّحَمنُ من بينِ البَشَرْ
َثمَّ أَقبلتُ إِليهِ مُسرِعاً ... ثَّم طَأْطَأْتُ وَقَبَّلْتُ الأَثَرْ
فَاسْتَقَامَتْ فَزَعاً قَاِئلَةً ... يَا أَمِينَ اللَّهِ مَا هَذَا الخَبَرْ