وقد ذكر ابن حبان - رحمه الله تعالى - في كتابه روضة العقلاء أن أبا العتاهية دخل على هارون الرشيد أمير المؤمنين - رحمه الله تعالى - فلما رآه قال: أبو العتاهية؟ قال: نعم، قال: الذي يقول الشعر، قال: الذي يقول الشعر، قال: عظني بأبيات شعر، وأوجز، فأنشده:
لا تأمن الموت في طرف وفي نفس ... ولو تمنعت بالحجاب والحرس
واعلم بأن سهام الموت قاصدة ... لكل مُدَّرِع منا ومُتَّرِس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكَها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
قال: فخر مغشيا عليه، قال ابن حبان - رحمه الله تعالى -: العاقل لا ينسى ذكر شيء هو مرتقب له، ومنتظر وقوعه من قدم إلى قدم، ومن لحظة إلى شزرة، فكم من مكرم في أهله، معظم في قومه، مبجل في جيرته، لا يخاف الضيق في المعيشة، ولا الضنك في المصيبة، إذ ورد عليه مذلل الملوك، وقاهر الجبابرة، وقاطع الطغاة، فألقاه صريعا بين الأحبة وجيرانه، مفارقا لأهل بيته وإخوانه، لا يملكون له نفعا، ولا يستطيعون عنه دفعا، فكم من أمة قد أبادها الموت، وبلدة قد عطلها، وذات بعل قد أرملها، وذي أب أيتمه، وذي إخوة قد أفرده، فالعاقل لا يغتر بحالة نهايتها تؤدي إلى ما قلنا، ولا يركن إلى عيش مغبته ما ذكرنا، ولا ينسى حالة لا محالة هو مواقعها، ويوما لا شك يأتيه، إذ الموت طالب حثيث، لا يعجزه المقيم، ولا ينفلت منه الهارب، وأنشد لسليمان بن يزيد العدوي:
ألم تر أن المرء يُودِي شبابه ... وأن المنايا للرجال تَشَعَّب
فمن ذائق كأسا من الموت مُرة ... وآخر أخرى مثلها يترقب
لها منهمُ زاد حثيث وسائق ... وكل بكأس الموت يوما سيشرب
وما وارث إلا سيورث ماله ... ولا سالب إلا وشيكا سيسلب
ولا آلف إلا سيتبع إلفَه ... ولا نعمة إلا تبيد وتذهب
وما من معافى ـ والمصائب جمة ـ ... يعاوره العصران إلا سيعطب
أرى الناس أضيافا أقاموا بغربة ... تقلبهم أيامها وتقلب