قوله: ولتجعل إلى قوله: الاختناق، معناه أنه يستحب للمرء تجنب الشبع، والري، لما في ذلك من المضار، وقد قال سبحانه وتعالى:(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) وفي الحديث " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أُكُلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه "(١) قال القرطبي - رحمه الله تعالى - في قوله سبحانه وتعالى:(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أحل الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة، فأما ما تدعو الحاجة إليه - وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ - فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس، وحراسة الحواس، ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال، لأنه يضعف الجسد، ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع، ويدفعه العقل، وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر، ولا نصيب من زهد، لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا، وأعظم أجرا، وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين، فقيل حرام، وقيل مكروه، قال ابن العربي - رحمه الله تعالى -: وهو الصحيح، فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان، والأزمان، والأسنان، والطعمان، ثم قيل في قلة الأكل منافع كثيرة، منها أن يكون الرجل أصح جسما، وأجود حفظا، وأزكى فهما، وأقل نوما، وأخف نفسا، وفي كثرة الأكل كظُّ المعدة، ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل، وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء.
وقد كنت قلت في نظم لي:
فزَيْدُ وزنٍ لتزايد الطلب ... جدا على أجهزة الجسم سبب
كالقلب والكلى وبنكرياس ... من كل عضو دوره أساسي
وذاك مُضْعِف لها مؤد ... لعجزها عن بعض ذاك الجهد
(١) رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.