للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والداذي أعجمية، والكلام فيها وفي السُّكر والنديم، والإبريق والكرائن، والماخور والناجود، والراقود والراووق، والفِدام والأقداح، وما تنوع منها، والشرب وألوانه، والتغمُّر والطفوح والبرض والريّ والرشف بأطراف الثنايا، وضم الشفتين، والكروع فيه، وفتح اللهوات حتى يسوغ المشروب دفعاً، ويحيزه جرعاً، يقع آخر الباب مستقصىً إن شاء الله.

[الخمر]

فأما الخمر فاشتقاقها من ثلاثة أشياء، أحدها من خمرت الشيء، أي غطيته، كأنها تغطي عقولَ الناس الشاربين، والخمرة السّجادة لأنها تخمر موضعها من الأرض، والخِمار المِقنَعة لأنها تخمر الرأس، والخمر ما واراك من الشجر، والخَمير الذي للعجين فعيلٌ بمعنى فاعل، أي خامرٍ فطورتَه، وهو مثل قدير وقادر؛ وغدير عند بعضهم بمعنى غادر، كأنه يغدر بالناس، يكون فيه ماء مرةً، ومرةً يخلو، وإليه ذهب الكميت:

ومن غدرِهِ نبزَ الأولو ... ن إذا لقَّبوه الغديرَ الغديرا

وهذا مما يستدل به على معرفتهم بالاشتقاق. قال حسان:

وشقَّ له من اسمه كي يجلَّهُ ... فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمّدٌ

ومن ذهب مذهب الاشتقاق من المُحدَثين قوم، فأحسنهم أبو نواس:

بكرَ العلاءَ ثلاثةٌ ما منهمُ ... إن حصّلوا إلا أغرُّ رفيعُ

سادَ الربيعُ وسادَ فضلٌ بعدَه ... وعلتْ بعباسِ الكريمِ فروعُ

عبّاسُ عبّاسٌ إذا احتدمَ الوغى ... والفضلُ فضلٌ والربيعُ ربيعُ

وفي غدير وجه آخر أغرب من الأول، وهو أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، كأنه ماء أغدره السيل، أي تركه. ويقال أغدرْتُه وغادرتُه بمعنى واحد. قال:

في هجمةٍ يغدُرُ منها القابضُ ... سُدسٌ ورُبْعٌ تحتها فرائضُ

أي يترك. فغديرٌ بمعنى مُغدرٍ، وهو ماء غدير في العربية، كضمير بمعنى مُضْمر، وحديث بمعنى مُحدَث، وعَقيد بمعنى مُعْقَد، وعتيق بمعنى مُعتَق، ونَضيج ومُنضَج، وسليم للديغِ بمعنى مُسلَمٍ للهلاك في أحد القولين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خمِّروا آنيتَكم وأوْكوا أسقيتكم، وضُمّوا مواشيكم " أي غطوها. ومن أمثال العرب في لفظه " اليوم خمرٌ وغداً أمر " و " خامري أمَّ عامرٍ " و " العوان لا تعلّم الخمرة " و " هو يدُبّ الضرّاءَ ويمشي الخمرَ " وتقول العامة " سيكون لهذا السُّكر خُمارٌ " وأنشد الأصمعي:

وداهيةٍ جرَّها جارمٌ ... جعلتَ رداءَكَ فيها خِمارا

أي حللت رؤوس القوم بالضرب وعمّمت لا غير، لأن الضرب يأخذ محلاً من الرأس لا كله، ومثله غشّيته، وهو في:

غشَّيْتُهُ وهو في جَأْواءَ باسلةٍ ... عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ فانفلقا

وقال آخر:

سقيتُ سهامَ الموتِ بالبيضِ فحلَها ... وجللتُه بالبأسِ والصارمِ الهِندي

وأراد بالرداء السيف، لأنه بحمائله وقرابه يُرتدى، وهو أيضاً ثقلٌ على العاتق فسموه به، قال الشاعر:

ليستْ عليهمْ إذا يغدونَ أرديةٌ ... إلا جيادَ قسيّ النبعِ والّلجمِ

ومنه قول فقيه العرب: " من أراد البقاء ولا بقاء فليُكْرِ العشاء، وليباكر الغداء وليخفف الرداء " معناه يخفف ظهره من ثقل الديون. والعرب تصف الكاهلَ والعنق والعاتق والمنكب بالوَثاقة والشدة، والنهوض بالأعباء، والاستقلال بالشدائد والاضطلاع بالأثقال. قال عمر بن أبي ربيعة:

إنَّ لي حاجةً إليكِ فقالتْ ... بين أُذني وعاتِقي ما تريدُ

أي أحملها وأقوم بقضائها.

وقال أبو عبادة:

وألقيتُ أمري في مهمِّ أمورِهِ ... ليحملَ رَضوى ما تحمّلَ كاهِلُهْ

وقال الآخر في الرداء:

إذا ما الثّريّا أطلعتْ من عِشائها ... طِلاعَ عروسٍ في ثيابِ جلاءِ

تبلدْتُ من علمي بما البينُ صانعٌ ... وإن ردائي ليس لي برداءِ

فإنه يريد الرداء بعينه، وهو كقول المرّار:

كأنَّ الثريّا أطلعتْ من عِشائِها ... بوجهِ فتاةِ الحيِّ ذاتِ المجاسِدِ

<<  <   >  >>