للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقلت له: فأقم معنا كما حكيت من فعل القعدية، قال: أفعل، وصرنا إلى حانة جابر، فقال شِعراً ذكر فيه ما قاله لي، وهو:

عتبَتْ عليكَ محاسنُ الدهرِ ... أمْ غيَّرتْكَ نوائبُ العصرِ

فصرفتَ وجهَكَ عن مُعتّقةٍ ... تفترُّ عن دُرَرٍ وعنْ شَذْرِ

يسعى بها ذو غُنّةٍ غنجٌ ... مُتكحّلُ اللحظاتِ بالسِّحْرِ

ونسيتَ قولكَ حين تمزجُها ... فتُريكَ مثلَ كواكبِ الفجرِ

لا تحسبَنَّ عُقارَ غانيةٍ ... والهمَّ يجتمعانِ في صدْرِ

فقال: هاتها في كذا وكذا من أم الأمين، ثم مد يده، وأخذ القدح، ثم سار إلى محمد الأمين، فمد يده وحدثه بذلك، وقال: شربت، قال: أحسنت وأجملت، اشخص حتى تُحمل إلى صديقك هذا، فقدم وحملني إلى محمد، فلم أزل معه حتى قُتل رضي الله عنه وأرضاه.

سرْجِس الخمّار:

من أهل طِيزناباذ. قال سليم بن أبي سهل بن نوبخت: حججتُ واستصحبت أبا نواس بعد امتناع منه ونِفار، وشرط علي أن أتقدم معه إلى القادسية فنقيم نشرب إلى أن تُوافي الحجاج بطيزناباذ، فشرطت له ذلك، فنزل على خمّار كان يألفه يقال له: سرجس النصراني، فشرب يومه وليلته ثم انتبه فأنشدني:

وخمّارٍ أنختُ إليهِ ليلاً ... قلائصَ قدْ وَنينَ منَ السفارِ

فجمجمَ والكرى في مقلتيهِ ... كمخمورٍ شكا ألمَ الخُمارِ

أبِنْ لي كيفَ صِرتَ إلى حريمي ... وثوبُ الليلِ ملتبسٌ بقارِ

فكانَ جوابُهُ أنْ قالَ صبحٌ ... ولا صبحٌ سوى ضوءِ العُقارِ

فقامَ إلى المُدامِ فسدَّ فاها ... فعادَ الليلُ مسودَّ الإزارِ

ولم يزل يشرب حتى ورد أوائل الحجاج فرحلنا معهم.

ابن أُذين:

من خمّاري قُطْرَبُّل، أبو الشبل البرجمي قال: اجتمعت مع أبي نواس، فقال: أتساعد حتى نمضي إلى موضع طيب؟ فقلت: ضاقت الدنيا حتى نسافر؟ قال: إن هناك خماراً ظريفاً ألفاً مساعداً، عنده شراب عتيق، وغلمان صِباح. فلما أتيناه قال: أتعرفه؟ قلت: لا، قال: هذا ابن أُذينٍ الذي أقول فيه:

اسقِني يا بنَ أُذينٍ ... من سُلافِ الزَّرَجونِ

اسقِني حتى ترى بي ... جِنّةً غير جَنونِ

عُتّقتْ في الدنِّ حتى ... هي في رقّةِ ديني

ولنا ساقٍ عليهِ ... حُلّةٌ من ياسَمينِ

وعلى الأُذنينِ منهُ ... وردَتْا آذَرَيونِ

[حانة الشط للواثق:]

كان الواثق يحب المواخير، فاتخذ حانتين، إحداهما في دار الحرم، والأخرى على الشط، وأمر بأن يُختار له خمار نظيف جميل المنظر، نصراني من قطربّل، فأتى رجل له ابنان وابنتان، فجعل النساء في دار الحرم، وضم إليهن وصائف روقةً وعدّةً من الجواري الشرابيات. وفُرشتا بفُرش الخلافة، وعُلّقت الستور والستائر، ونُقل إليهما من آلة الشراب محاسن ما في الخزانة، واستعمل الخمّار دِناناً مُذهّبةً، وكراسي مدهونةً مذهبةً، وروّق الشراب. فجلس يوماً، وخرج هو وأولاده في أوساطهم الزنانير المحلاة ومعهم غلمان يحملون المكاييل والكُبَّرات والصواني، وبُزلت، وجُعل يؤتى بالأنموذجات ويكتال منها بمكيال، ووُضع على كل رأسٍ حصير من أكاليل الآس. قال الحسين بن الضحاك: قال لي الواثق: قل شعراً فيما ترى، فخجلت حتى ضقت ذرعاً، فقال: مالكَ؟ أما ترى نور صباح ونَورَ أقاحٍ، فانفتح لي القول فقلت:

ألستَ ترى الصبحَ قد أسفرا ... ومُبتكرَ الغيثِ قدْ أمطرا

وأصحرتِ الأرضُ في حُلّةِ ... تُضاحكُ بالأحمرِ الأصفرا

ووافاكَ نَيسانُ في سُنبلٍ ... وحثَّكَ بالشربِ كي تسكرا

وتعملَ كأسينِ في فتيةٍ ... تطاردُ بالأصغرِ الأكبرا

يحثُّ كؤوسَهمُ مُخطَفٌ ... تُجاذبُ أردافُهُ المئزرا

ترجّلَ بالبانِ حتى إذا ... أدارَ غدائرَهُ وفَّرا

وقصّرَ في الجُلّنارِ البهارَ ... والآبنوسةَ والعنبرا

فلما تمازجَ ما شذّرت ... مقارضُ أطرافِهِ شَهّرا

فكلٌّ ينافسُ في بِرِّهِ ... ليركبَ في أمرِهِ المُنكرا

<<  <   >  >>