كان الأقيشر لا يسأل أحداً أكثر من خمسة دراهم، يدفع منها درهمين إلى مَكّار له يقال له أبو المضاء يركب بغله من الحيرة، ويرجع عليه، ويصرف درهماً فيما يأكله، ويدفع إلى الخمار درهمين يشرب بهما عنده، وكان يأتي دار سميّق ويلقى لديه تبناً ويربطه عنده، ثم ينصرف عليه وهو سكران لا يعقل فيمضي به رَسْلاً إلى بيته ويأخذه أبو المضاء، وكان جاراً للأقيشر، فيقال إن صاحبه استوفى ثمنه مراراً في الكِراء والبغل له، وفيه يقول الأقيشر:
يا بغلَ بغلَ أبي المضاءِ تعلَّمنْ ... أنّي حلفتُ ولليمينِ نذورُ
لتعسِّفَنَّ وإنْ كرهتَ مهامِهاً ... فيما أحبُّ، وكلُّ ذاكَ يسيرُ
بالرغمِ يا ولدَ الحمارِ تَجوبُها ... عمداً وأنتَ مُذلَّلٌ مَصبورُ
حتى تزورَ سُميّقاً في دارِهِ ... وترى المدامةَ والكؤوسَ تدورُ
وشرب الأقيشر عند سميق حتى أنفد ما معه، ثم شرب بثيابه حتى عري، وجاء المطر فقال: أنسئني اليوم فأنسأه وشرب، فلما كان الليل اندس في تبن حمار كان للخمار، فسمع في الليل رجلاً ينشد ضالته، فقال: اللهم اردد عليه، واحفظ علينا، فسمع الخمّار فقال: سخنَتْ عينك، أي شيء يحفظ عليك وأنت عريان! فقال: هذا التبن حتى لا يجوع حمارك، فتعلفه هذا التبن فأموت أنا من البرد، فضحك وردّ عليه ثيابه، وحلف ألا يسقيه على رهن ولا بنسئه أبداً.
[أناهيد:]
خمّارة من أهل سجستان، كان أبو الهندي إذا ضُرب عليه البعث إلى سجستان يلزمها، ويشرب عندها، فشرب يوماً مع نديمه حتى سكر وناما. فلما هب هواء السحَر تنبه أبو الهندي، والزق مطروح قد بقي فيه شطر الشراب، فأقامه وصب منه في كأس، وجاء إلى نديمه يحركه، وقال:
تصبَّحْ بوجهِ الراحِ والطائرِ السعدِ ... كُميتاً وبعدَ المزجِ في صيغةِ الوردِ
تضمَّنَها زِقٌّ أزَبٌّ كأنّهُ ... صريعٌ من السودانِ ذو شعرٍ جعْدِ
لهُ أكرعٌ سالتْ رُواءٌ كأنّها ... أكارعُ قتلى من جُهينةَ أو نَهْدِ
فلما هدَتْ بعضَ الهدوءِ ترقرقتْ ... كما رقرقرتْ عينٌ دموعاً على الخدِّ
فألقَتْ قناعَ الدرِّ فوقَ جبينِها ... كما قُنِّعتْ بِكرٌ من الخُرَّدِ الجُردِ
ولما حللْنا رأسَهُ من رباطِهِ ... أفاضَ دماً كالمسكِ والعنبرِ الوردِ
وجدْناهُ في بعضِ الزوايا كأنّهُ ... أخو قِرّةٍ يهتزُّ من شدةِ البردِ
أخو قرّةٍ يُبدي لنا صَفحَ وجههِ ... وكانَ رقيقَ الجلدِ من ولدِ السِّندِ
يحيى الخمّار:
من أهل السواد. وندب الحارث بن عبد الله بن ربيعة عامل الزبير الناسَ لحرب أهل الشام، وأعطاهم عطاءً نزراً، وكان فيمن ندب الأقيشر، ولم يكن عنده شيء يركبه سوى حمار ضعيف، ورمح وترس، فأخذ العطاء وخرج. فلما عبر جسر سُورا عدل إلى قريةٍ يقال لها فَنين، فنزل على خمّار نبطيّ يبذل زوجته لمن نزل عليه، يقال له يحيى، فتوارى عنده، وباع حماره ورمحه وترسه، وجعل يشرب بعطائه، وثمن ما باعه، ويفجر بامرأة الخمار إلى أن قفل الجيش، فدخل معهم وقال:
خرجتُ من المصرِ الحواريّ أهلُهُ ... بلا نيّةٍ فيها احتسابٌ ولا جُعلِ
إلى جيشِ أهلِ الشامِ أُغريتُ كارهاً ... سَفاهاً بلا سيفٍ حديدٍ ولا نَبلِ
ولكنْ بترسٍ ليسَ فيهِ حِمالةٌ ... ورمحٍ ضعيفِ الزُّجِّ منصدعِ النَّصلِ
حباني به ظلمُ القباعِ فلم أجدْ ... سوى أمرِهِ والسيرِ شيئاً من الفعلِ
فأجمعتُ أمري ثم أصبحتُ غازياً ... وسلّمتُ تسليمَ الغزاةِ على الأهلِ
وقلتُ لعل أن أرى ثَمَّ راكباً ... على فرسٍ أو ذا متاعٍ على بغلِ
جوادي حمارٌ كانَ دهراً لظهرهِ ... أكافٌ وإشناقُ المزادةِ والرحلِ
وقدْ خانَ عينيه بياضٌ وخانَهُ ... قوائمُ سُوءٍ حينَ يُزجرُ في الوحلِ
إذا ما نتحى في لُجّةِ الماءِ لم ترِمْ ... قوائمُهُ حتى يؤخَّرَ بالحِملِ
فإنْ بلغَ الضحضاحَ فحجَّ بائلاً ... صبوراً على ضربِ الهراوةِ والركلِ
أنادي الرفاقَ: باركَ اللهُ فيكمُ ... رويدَكمُ حتى أجوزَ إلى السهلِ
فسِرنا إلى فنينَ يوماً وليلةً ... كأنّا بغايا ما يَسرْنَ إلى بعلِ