للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبعد، فهذا الفصل ما شرطنا في صدر الكتاب من مقطّعات الشّعر المنتخبة في أحوال المحبين، وما يتشعب منها من جميع الفنون، متداخلاً بعضها في بعض. ولم نبوّبها لأن المقصد في مضمون الكتاب إلى المختار؛ وعقد الأبواب في فنّ فنّ يضطرُّ صاحبه إلى إيراد الجيد والرَّديء) والغث والسَّمين (، محبةً لتكثير حجمه. والمبتدئ الأمر ساكن النفس معتدل الأخلاط. فإذا توسَّط هاجت طبيعته، فتجاوز الحقوق إلى الفضول، والقصد إلى السَّرف والعدل إلى الشّطط. فسرنا في إجمالنا هذه المسيرة وهي قضية عادلةٌ، وطريقةٌ واسطةٌ ومقالةٌ رضيّةٌ.

وبعدُ، فالطالب لنعت حال من أحوال الهوى، إذا احتاج إلى عدّ صفحاته، وحصر أوراقه وتأمُّل سطوره، وتكرير النظر والفكر في منظومه، ثم هجم على بغيته وظفر بمطلوبة، تضاعفت الحاجة في صدره، وتزايد موقعها في قلبه ككاسب المال ووارثه. وعذرنا فيما وقع في أوَّل الكتاب إلى آخره، إن كان وقع، من مقطوعة خارجة عن شرط الاختيار، قول الشاعر:

وحُسنُ دَراريِّ الكواكبِ أن تُرى ... طوالعَ في داجٍ من الليلِ غيهبِ

والصوابُ في التأليفِ أنَّ الهوى أوَّلٌ وهو أعمُّ لوقوعِه على كلِّ ما يهواهُ الإنسان. وثانيه الحبُّ، وهو أخصُّ. وأقصاه العشق. ولهذا ما قال أبو عبادة:

فاليومَ جازبيَ الهوى مقدارهُ ... في أهلِه وعلمتُ أني عاشقُ

والاشتقاق يؤيِّد ما قلناه، لأنَّ الهوى من زوال الشئ عن موضعه. والحب ملازمه المكان ثم الانبعاث، كما قيل:

محبٌّ كإحبابِ البعيرِ وإنَّما ... به أسفٌ أنْ لا يرى من يصاولُهْ

والعشق إنما هو من العشقة وهي اللَّبلابة؛ كأنَّ العاشق سمي بذلك لذبوله.

وقالوا في قول رؤبة:

ولم يُضِعْها بينَ فرْكٍ وعشقْ

وفي محفوظ ما اشتملت عليه الأوراق كفاية وبلاغٌ في إيراد الشاهد، وعمارة المجلس، وإيناس الهائم الوحيد، وتسلية العاشق الفريد، ومن أيَّد بصفاء قريحة ٍ وطينةٍ قابلةٍ ورقة حدٍ، استغنى به في قيل الشِّعر، إن سمت همته إليه، أو حامت نهمته عليه، ولم يفتقر إلى أحدٍ واستزادة مددٍ بعون الله ومنِّه. وقد قدمنا أمامها القول في الفرق بين الحب والهوى والعشق. والشعراء مختلفون في هذا الترتيب. فمنهم من جعل الهوى أشدَّ. أما سمعت كثيراً يقول:

هوىً لا تطيقُ الراسياتُ احتمالهُ ... فسلْ عن ضعيفِ القلب كيف احتمالهُ

ومنهم من يجعل الحب أشد كقول الآخر:

تأثل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يَسيرُ

تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرورُ

إنه لم يضعها بين اطراحٍ وملازمةٍ. ويقال: عشق بالشئِ إذا لزمه. ولكل جيلٍ من الناسِ قولٌ في الحبِّ حسبَ اعتقاده. فالمنجِّمون ردّوهُ إلى تأثيرِ الكواكبِ. والأطبّاء ومن جرى مجراهم ردّوه إلى الطَّبع وأصحُّه بحكم العيانِ وقضيةِ المشاهدةِ ما قالت ابنةُ الخسِّ: قربُ الوسادِ وطولُ السِّواد. وهو دوامُ النظرِ الفكرْ. وما أحسنَ ما قالته الأعراب أحسنَ ما قالته الأعرابيَّة في صفةِ الحبِّ: خفيَ عن أنْ يرى وجلَّ عن أنْ يخفي. فهو كامنً ككمونِ النار في الحجر إن قدحته أورى، وإن تركته توارى، وإن لم يكن شعبةً من الجنون فهو عصارةٌ من السحر.

العتّابي:

امطِليني وسَوَّفي ... وعديِني ولا تَفي

اتْرُكِيني مُعلَّقاً ... إنَ تَجودي وتُسعِفي

فَعسى يَعثرُ الزما ... نُ بِجَدِّي فأَشتَفي

أَنا راضٍ بما صنعتِ ... وإنْ كان مُتلفي

بشّار:

تَشتهي قُربكَ الربابُ وتَخشى ... قولَ واشٍ وتتَّقِي إسماعَهْ

لكَ مِن قلبِها محلُّ شَرابٍ ... تَشْتَهي وِردهُ وتَخشى صُداعهْ

وأخذ هذا المعنى، على طريق التورية، بعضُهم وطرَّده إلى العتاب فقال:

يحبُّ المَديح أبو صالحٍ ... ويهربُ من صِلَةِ المادحِ

كَبِكْرٍ تُحبُّ لذيذَ النِكاحِ ... وتهربُ من صَوْلةِ الناكحِ

عليُّ بنُ الجهْمِ:

ولما بَدتْ بينَ الوُشاةِ كأنها ... عِناقُ الوَداع يُشتَهى وهو يَقتُلُ

يَئسْتُ من الدُنيا وقلتُ لِصاحبي ... لَئِنْ عَجِلتْ للمَوتُ أوْحى وأعجَلُ

إبراهيم بن العبَّاس:

<<  <   >  >>