ما تخشع الراسيات دون احتماله، فقلت:" ما بالك يا فاطمة؟ "- وكأنها أنِسَتْ منى ما لم تأنسه ممن حولها- فأجابتني بصوت يتعثر من الضنى: (لنا جيرة مسلمون، أغدو إليهم فأستمع أمر دينهم، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيت النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم في هالة من النور يخطف سناها الأبصار، يقول وهو يلوح إلي بيده:" اقتربي يا فاطمة ") ، ولو أنك أبصرتها، وهي تنطق باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم لرأيت رعْدَة تتمشى بين أعطافها وأطرافها حتى تنتهي إلي أسنانها فتخالف بينها، وإلى لسانِها فتعقله، وإلى وجهها فتحيل لونه، فلم تكد تستتم جملتها حتى أخذتها رجفة فهوت على مقعدها كأنها بناء منتقض!
إلى ذلك الحد غشي الناس ما غشيهم من الحزن، وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار فطلبت إليه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله:" أشهد أن محمدًا رسول الله " تنفست الصُّعداء، وأمعنت في البكاء، وعاودتها سيرتها الأولى، فلما أفاقت قلت لها:" ومم تخافين وتفزعين؟ "، قالت:" إنه سيؤمر بي إلى دير.. حيث ينهلون من السياط دمي، ولست من ذلك أخاف، إلا إن أخوف ما أخاف يومئذ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي! "، قلت لها:" يا فاطمة أولا أدلك على خير من ذلك؟ "، قالت:" أجل"، قلت:" إن حكم الإسلام على القلوب، فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك، حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين؟ "، هنالك نظرت إليَّ نظرة تضاءلتُ دونها حتى خفيتُ على نفسي، ثم قالت:" دون ذلك حَزُّ الأعناق وتفصيل المفاصل! دعني! فإنني إن أطعت نفسي، عصاني لساني "، وكان ضلالًا ما توسلت به أنا وأبوها ومَن حولها.
كان ذلك حتى أوفينا على القاهرة فحيل دونها، لم أعلم بعد ذلك