إِلَّا بِمَحَلٍّ يَحُلُّ فِيهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ وَهِيَ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْهُ، فَقَدْ جَعَلَهُ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ.
وَأَيْضًا لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا قَالَ: إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ اللَّهَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَرْشِ، مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ الْعَرْشِ، وَالْمَخْلُوقُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْخَالِقِ، لَا يَفْتَقِرُ الْخَالِقُ إِلَى الْمَخْلُوقِ، وَبِقُدْرَتِهِ قَامَ الْعَرْشُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَرْشِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ.
فَمَنْ فَهِمَ عَنِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَرْشِ فَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِمْ، كَيْفَ وَهَمَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَرْشِ؟ فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْعَرْشِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْعَرْشِ.
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الْعَالَمَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَالِيَهُ مُحْتَاجًا إِلَى سَافِلِهِ، فَالْهَوَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ السَّحَابُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ السَّمَاوَاتُ فَوْقَ السَّحَابِ وَالْهَوَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إِلَى ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مُحْتَاجًا إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ (١) لِكَوْنِهِ فَوْقَهَا عَالِيًا عَلَيْهَا؟ !
(١) نَقَلَ مُسْتَجِي زَادَهْ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الَّذِي يَبْدَأُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ فَهِمَ عَنِ الْكَرَّامِيَّةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ كَتَبَ التَّعْلِيقَ التَّالِيَ: " قُلْتُ أَنَا: وَلَا شَكَّ أَنَّ سَلَفَنَا الصَّالِحِينَ مِثْلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمُتَّبِعِي التَّابِعِينَ أَتْقَى النَّاسِ وَأَوْرَعُهُمْ، وَأَشَدُّهُمُ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ وَاقْتِدَاءً بِهِ، وَأَعْرَفُهُمْ لِمُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ بِذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُونَ مِثْلُ إِمَامِنَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مُجْمِعُونَ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ بِذَاتِهِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّأْوِيلِ وَالِاسْتِيلَاءِ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ رَجُلٍ خَبِيثٍ جَاءَ فِي عَصْرِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَشَاعَتْ فِتْنَةُ الْجَهْمِيَّةِ بَعْدَ هَذَا الْخَبِيثِ فِي النَّاسِ، حَتَّى يُنْقَلُ عَنْ هَذَا الْخَبِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي لَوْ مَحَوْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) عَنِ الْقُرْآنِ. فَانْظُرْ إِلَى جَسَارَةِ هَذَا الْخَبِيثِ وَغُلُوِّهِ فِي التَّنْزِيهِ! وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرْوِي عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشَ أَخْلَفَ رَجُلَيْنِ خَبِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَيْثُ إِنَّهُ يَقُولُ بِأَنَّهُ تَعَالَى مِنْ قَبِيلِ الْأَجْسَامِ، وَالْآخَرُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ حَيْثُ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ قَبِيلِ لَا شَيْءَ ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute