للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمْ يَعْرِفْهُ، وَقَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، بَلِ اللَّهُ يُعَذِّبُ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، فَيُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا قَطُّ، وَيُنَعِّمُ مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَنْبًا قَطُّ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْزِمُ بِعَذَابِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ وَيَقُولُ: لَا أَدْرِي مَا يَقَعُ، وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَغْفِرَ لِأَفْسَقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا، وَيُعَذِّبَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ عَلَى السَّيِّئَةِ الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا، بَلْ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ.

وَأَصْلُ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ حَادِثٍ يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَأُولَئِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ، وَطَوَائِفُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: أَصْلُ الْإِحْدَاثِ وَالْإِبْدَاعِ كَانَ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ خَلَقَ أَسْبَابًا وَحِكَمًا عَلَّقَ الْحَوَادِثَ بِهَا.

وَاخْتَلَفَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ الْجَبْرِيَّةُ فِي الظُّلْمِ. فَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: الظُّلْمُ فِي حَقِّهِ هُوَ مَا نَعْرِفُهُ مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِنَّهُ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا وَقَعَ، وَقِيلَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّهُ يُعَذِّبُ الْعَاصِيَ، كَانَ هَذَا ظُلْمًا كَظُلْمِنَا، وَسَمَّوْا أَنْفُسَهُمُ الْعَدْلِيَّةَ. وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: الظُّلْمُ فِي حَقِّهِ هُوَ مَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ، فَأَمَّا كُلُّ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فَلَيْسَ بِظُلْمٍ ; فَإِنَّ الظُّلْمَ إِمَّا مُخَالَفَةُ أَمْرِ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَإِمَّا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>