للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ نَوْعٌ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ نَوْعٌ، وَهَذَا الْفَنَاءُ عِنْدَهُ لَا يُجَامِعُ الْبَقَاءَ ; فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِكُلِّ مَا سِوَى حُكْمِ الرَّبِّ بِإِرَادَتِهِ الشَّامِلَةِ، الَّتِي تُخَصِّصُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُخَصِّصٍ.

وَلِهَذَا قَالَ فِي " بَابِ التَّوْبَةِ " فِي لَطَائِفِ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ (١) : " اللَّطِيفَةُ (٢) الثَّالِثَةُ: أَنَّ (٣) مُشَاهَدَةَ الْعَبْدِ الْحُكْمَ لَمْ تَدَعْ لَهُ اسْتِحْسَانَ حَسَنَةٍ وَلَا اسْتِقْبَاحَ سَيِّئَةٍ، لِصُعُودِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَانِي إِلَى مَعْنَى الْحُكْمِ " أَيِ الْحُكْمِ الْقَدَرِيِّ، وَهُوَ خَلْقُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ ; فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ فِي الْوُجُودِ فَرْقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ، بَلْ يَقُولُ: كُلُّ مَا سِوَاهُ مَحْبُوبٌ لَهُ، مَرْضِيٌّ لَهُ، مُرَادٌ لَهُ، سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لَيْسَ يُحِبُّ شَيْئًا وَيُبْغِضُ شَيْئًا، فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ هَذَا لَا يَكُونُ مَعَهَ اسْتِحْسَانُ حَسَنَةٍ، وَلَا اسْتِقْبَاحُ سَيِّئَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ ; إِذْ الِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِقْبَاحُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ: يَسْتَحْسِنُ مَا يُلَائِمُهُ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا يُنَافِيهِ.

وَفِي عَيْنِ الْفَنَاءِ لَا يَشْهَدُ نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ، بَلْ لَا يَشْهَدُ إِلَّا فِعْلَ رَبِّهِ، فَعِنْدَ هَذِهِ الْمُشَاهَدَةِ لَا يَسْتَحْسِنُ شَيْئًا وَيَسْتَقْبِحُ آخَرَ، عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ، الْمُتَّبِعِينَ لِجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَمْثَالِهِ.

وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْقَدَرِيَّةَ فِي أَنَّ مَشِيئَةَ الرَّبِّ وَإِرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ سَوَاءٌ. ثُمَّ قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ: وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، فَهُوَ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَشَاؤُهُ ; فَيَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ.


(١) فِي كِتَابِهِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ص ١١
(٢) مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَاللَّطِيفَةُ.
(٣) أَنَّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ر) ، (ي) .

<<  <  ج: ص:  >  >>