للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث أن ملك القلوب يسرى وينمى ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة فإن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضاً له ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت وانتشار الذكر

لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة والجاه أبداً في النماء بنفسه ولا مرد لموقعه والمال واقف ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء استحقرت الأموال في مقابلته فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال

وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح

فإن قلت فالإشكال قائم في المال والجاه جميعاً فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال والجاه

نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم كالمحتاج إلى الملبس والمسكن والمطعم أو كالمبتلي بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن نفسه إلا بمال أو جاه فحبه للمال والجاه معلوم إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا به فهو محبوب وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جمع الأموال وكنز الكنوز وادخار الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها ليعظموه أو ليبروه بمال أو ليعينوه على غرض من أغراضه ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في الطبع ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة فنقول نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب

وله سببان

أحدهما جلي تدركه الكافة

والآخر خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء فضلا عن الأغنياء وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا يكاد يقف عليها إلا الغواصون

فأما السبب الأول فهو دفع ألم الخوف لأن الشفيق بسوء الظن مولع والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال الذي فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزع إليه إن أصابت هذا المال جائحة فهو أبدا لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة ويقدر هجوم الحاجات ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال ويستشعر الخوف من ذلك فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال فلذلك لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال // حديث منهومان لا يشبعان الحديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند ضعيف والبزار والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس بسند لين وقد تقدم

ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه ويحتاج إلى الاستعانة بهم ومهما كان ذلك ممكناً ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلاً إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا الخوف

<<  <  ج: ص:  >  >>