للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم لأن المالك يملك العبد قهراً والعبد متأب بطبعه ولو خلى ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعا ويبغي أن تكون له الأحرار عبيداً بالطبع والطوع مع الفرح بالعبودية والطاعة له فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير

فإذاً معنى الجاه قيام المنزلة في قلوب الناس أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه فيقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه

فهذا هو معنى الجاه وحقيقته وله ثمرات كالمدح والإطراء فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده فيثني عليه وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالاً فإن هذه الأوصاف كلها تعظم محله في القلوب فتكون سبباً لقيام الجاه والله تعالى أعلم

بيان سبب كون الجاه محبوباً بالطبع حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد

المجاهدة

اعلم أن السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوباً هو بعينه يقتضي كون الجاه محبوباً بل يقتضي أن يكون أحب من المال كما يقتضي أن يكون يكون الذهب أحب من الفضة مهما تساويا في المقدار وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس وإنما هي والحصباء بمثابة واحدة ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء الشهوات فكذلك الجاه لأن معنى الجاه ملك القلوب وكما أن ملك الذهب والفضة يفيد قدرة يتوصل الإنسان بها إلى سائر أغراضه فكذلك ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال ولملك الجاه ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه

الأول أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له فإذاً الجاه آلة ووسيلة إلى المال فمن ملك الجاه فقد ملك المال ومن ملك المال لم يملك الجاه بكل حال فلذلك صار الجاه أحب

الثاني هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن ويتطرق إليه أخطار كثيرة وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة لا يقدر عليها السراق ولا تتناولها أيدي النهاب والغصاب وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا يستغني عن المراقبة والحفظ وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها والجاه في أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها

نعم إنما تغضب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف الكمال وذلك مما يهون دفعه ولا يتيسر على محاولة فعله

<<  <  ج: ص:  >  >>