للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما عليك أن لا تعرف وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت محموداً عند الله تعالى فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول

وإنما الْمَطْلُوبَ بِالشُّهْرَةِ وَانْتِشَارِ الصِّيتِ هُوَ الْجَاهُ وَالْمَنْزِلَةُ في القلوب وحب الجاه هو منشأ كل فساد

فإن قلت فأي شهوة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء فكيف فاتهم فضيلة الخمول فاعلم أن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من جهة الله سبحانه مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ مِنَ الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ

نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء وهم كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك

بيان ذم الجاه ومعناه

وقال اللَّهُ تَعَالَى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} جمع بين إرادة الفساد والعلو وَبَيْنَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لِلْخَالِي عَنِ الْإِرَادَتَيْنِ جميعا

فقال عز وجل ومن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يعملون وَهَذَا أَيْضًا مُتَنَاوِلٌ بِعُمُومِهِ لِحُبِّ الْجَاهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لَذَّةً مِنْ لَذَّاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَكْثَرُ زينة من زينتها

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل (١) حديث ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم الحديث تقدم أيضا هناك

وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء // حديث إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء لم أره بهذا اللفظ وقد تقدم في العلم من حديث أنس ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع الحديث ولأبي منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس بسند ضعيف حب الثناء من الناس يعمي ويصم

نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه

بيان معنى الجاه وحقيقته

اعْلَمْ أَنَّ الْجَاهَ وَالْمَالَ هُمَا رُكْنَا الدُّنْيَا

وَمَعْنَى الْمَالِ مِلْكُ الْأَعْيَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا وَمَعْنَى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها

وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه

وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات فكل من اعتقد القلب فيه وصفاً من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك الكمال عنده وليس يشترط أن يكون الوصف كمالاً في نفسه بل يكفي أن يكون كمالاً عنده وفي اعتقاده وقد يعتقد ما ليس كمالاً كمالاً ويذعن قلبه للموصوف به انقياداً ضرورياً بحسب اعتقاده فإن انقياد القلب حال للقلب

وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد


(١) حديث المال والجاه ينبتان النفاق الحديث تقدم في أول هذا الباب ولم أجده
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذِئْبَانِ ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأسرع إفساداً من حب الشرف والمال في دين الرجل المسلم

<<  <  ج: ص:  >  >>