للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظهر على الجوارح يقال تكبر وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر

فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به وبه ينفصل الكبر عن العجب كما سيأتي فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجباً ولا يتصور أن يكون متكبراً إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال فعند ذلك يكون متكبراً ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبراً فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر بل هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة هو خلق الكبر

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من نفخة الكبرياء (١) حديث لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذرة من كبر تقدم فيه

وَإِنَّمَا صَارَ حِجَابًا دُونَ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهَا وَتِلْكَ الْأَخْلَاقُ هِيَ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَالْكِبْرُ وَعِزَّةُ النَّفْسِ يغلق تلك الأبواب كلها لأنه لا يقدر على أن يحب المؤمنين ما يحب لنفسه وفيه شيء من العز وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَهُوَ رَأْسُ أَخْلَاقِ المتقين وفيه العز ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز ولا يقدر أن يدوم على الصدق وفيه العز ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه العز ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز ولا يقدر على قبول النصح وفيه العز ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم وفيه العز ولا معنى للتطويل فما من خلق


(١) حديث أعوذ بك من نفخة الكبرياء تقدم فيه
وكذلك قال عمر أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا للذي استأذنه أن يعظ بعد صلاة الصبح
فكأن الإنسان مهما رأى نفسه بهذه العين وهو الاستعظام كبر وانتفخ وتعزز
فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات وتسمى أيضاً عزة وتعظماً ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه قال عظيمة لم يبلغوها ففسر الكبر بتلك العظمة
ثم هذه العزة تقتضي أعمالاً في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبراً فإنه مهما عظم عنده قدره بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدراه وأقصاه عن نفسه وأبعده وترفع عن مجالسته ومؤاكلته ورأى أن حقه أن يقوم ماثلاً بين يديه إن اشتد كبره فإن كان أشد من ذلك استنكف عن استخدامه ولم يجعله أهلاً للقيام بين يديه ولا بخدمة عتبته فإن كان دون ذلك فأنف من مساواته وتقدم عليه في مضايق الطرق وارتفع عليه في المحافل وانتظر أن يبدأه بالسلام واستبعد تقصيره في قضاء حوائجه وتعجب منه وإن حاج أو ناظر أنف أن يرد عليه وإن وعظ استنكف من القبول وإن وعظ عنف في النصح وإن رد عليه شيء من قوله غضب وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم واستخدمهم وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالاً لهم واستحقاراً
والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة وهي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها فإنها مشهورة
فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وغائلته هائلة وفيه يهلك الخواص من الخلق وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء فضلاً عن عوام الخلق وَكَيْفَ لَا تَعْظُمُ آفَتُهُ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ في قلبه مثقال ذرة من كبر

<<  <  ج: ص:  >  >>