فاختار أهون الألمين وهو ألم التسليم فسلمه فلا فرق بين هذا وبين المصادرة إذ معنى المصادرة إيلام البدن بالسوط حتى يصير ذلك أقوى من ألم القلب ببذل المال فيختار أهون الألمين والسؤال في مظنة الحياء والرياء ضرب للقلب بالسوط ولا فرق بين ضرب الباطن وضرب الظاهر عند الله تعالى فإن الباطن عند الله تعالى ظاهر وإنما حاكم الدنيا هو الذي يحكم بالملك بظاهر قوله وهبت لأنه لا يمكنه الوقوف على ما في القلب وكذلك من يعطى اتقاء لشر لسانه أو لشر سعايته فهو حرام عليه وكذلك كل مال يؤخذ على هذا الوجه فهو حرام
ألا ترى ما جاء في قصة داود عليه السلام حيث قال بعد أن غفر له يا رب كيف لي بخصمي فأمر بالاستحلال منه وكان ميتاً فأمر بندائه في صخرة بيت المقدس فنادى يا أوريا فأجابه لبيك يا نبي الله أخرجتني من الجنة فماذا تريد فقال إني أسأت إليك في أمر فهبه لي قال قد فعلت ذلك يا نبي الله فانصرف وقد ركن إلى ذلك فقال له جبريل عليه السلام هل ذكرت له ما فعلت قال لا قال فارجع فبين له فرجع فناداه فقال لبيك يا نبي الله فقال إني أذنبت إليك ذنبا قال ألم أهبه لك قال ألا تسألني ما ذلك الذنب قال ما هو يا نبي الله قال كذا وكذا وذكر شأن المرأة فانقطع الجواب فقال يا أوريا ألا تجيبني قال يا نبي الله ما هكذا يفعل الأنبياء حتى أقف معك بين يدي الله فاستقبل داود البكاء والصراخ من الرأس حتى وعده الله أن يستوهبه منه في الآخرة
فهكذا ينبهك أن الهبة من غير طيبة قلب لا تفيد وأن طيبة القلب لا تحصل إلا بالمعرفة فكذلك طيبة القلب لا تكون في الإبراء والهبة وغيرهما إلا إذا خلى الإنسان واختياره حتى تنبعث الدواعي من ذات نفسه لا أن تضطر بواعثه إلى الحركة بالحيل والإلزام
ومن ذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول من زوجته واتهابه مالها لإسقاط الزكاة فالفقيه يقول سقطت الزكاة فإن أراد به أن مطالبة السلطان والساعي سقطت عنه فقد صدق فإن مطمح نظرهم ظاهر الملك وقد زال وإن ظن أنه يسلم في القيامة ويكون كمن لم يملك المال أو كمن باع لحاجته إلى المبيع لا على هذا القصد فما أعظم جهله بفقه الدين وسر الزكاة فإن سر الزكاة تطهير القلب عن رذيلة البخل فإن البخل مهلك قال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شحه مطاع // حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم غير مرة
وإنما صار شح مطاعاً بما فعله وقبله لم يكن مطاعاً
فقد تم هلاكه بما يظن أن فيه خلاصه فإن الله مطلع على قلبه وحبه المال وحرصه عليه وأنه بلغ من حرصه على المال أن استنبط الحيل حتى يسد على نفسه طريق الخلاص من البخل بالجهل والغرور ومن ذلك إباحة الله مال المصالح للفقيه وغيره بقدر الحاجة والفقهاء المغرورون لا يميزون بين الأماني والفضول والشهوات وبين الحاجات بل كل مالا تتم رعونتهم إلا به يرونه حاجة وهو محض الغرور بل الدنيا خلقت لحاجة العباد إليها في العبادة وسلوك طريق الآخرة فكل ما تناوله العبد للاستعانة به على الدين والعبادة فهو حاجته وما عدا ذلك فهو فضوله وشهوته ولو ذهبنا نصف غرور الفقهاء في أمثال هذا لملأنا فيه مجلدات وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَمْثِلَةٍ تُعَرِّفُ الأجناس دون الاستيعاب فإن ذلك يطول
الصنف الثاني أرباب العبادة والعمل والمغرورون منهم فرق كثيرة فمنهم من غروره في الصلاة
ومنهم من غروره في تلاوة القرآن
ومنهم في الحج
ومنهم في الغزو
ومنهم في الزهد وكذلك كل مشغول بمنهج من مناهج العمل فليس خالياً عن غرور إلا الأكياس وقليل ما هم
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل وربما تعمقوا في الفضائل حتى خرجوا إلى العدوان