العرب لأجل ورود الشريعة بها فيكفي من اللغة علم الغريبين في الأحاديث والكتاب ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه ثم لو اقتصر عليه وأعرض عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها فهذا أيضاً مغرور بل مثاله مثاله مثال من ضَيَّعَ عُمُرَهُ فِي تَصْحِيحِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ فِي الْقُرْآنِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ غُرُورٌ إِذِ الْمَقْصُودُ من الحروف المعاني وإنما الحروف ظروف وأدوات ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين فذلك غرور أهل النحو واللغة والأدب والقراءات والتدقيق في مخارج الحروف مهما تعمقوا فيها وتجردوا لها وعرجوا عليها أكثر مما يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين فاللب الأقصى هو العمل والذي فوقه هو معرفة العمل وهو كالقشر للعمل وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو سماع الألفاظ وحفظها بطريق الرواية وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ولب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك وهو القشر الأعلى العلم بمخارج الحروف والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذ هذه الدرجات منازل فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل فطالب بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات
فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل القريب أو في المنزل البعيد
وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها
فأما علم الطب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع فلا يعتقد أصحابها أنهم ينالون المغفرة بها من حيث إنها علوم فكان الغرور بها أقل من الغرور بعلوم الشرع لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمودة كما يشارك القشر اللب في كونه محموداً ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهى
والثاني محمود للوصول به إلى المقصود الأقصى فمن اتخذ القشر مقصوداً وعرج عليه فقد اغتر به
وفرقة أخرى عظم غرورهم في فن الفقه فظنوا أن حكم العبد بينه وبين الله يتبع حكمه في مجلس القضاء فوضعوا الحيل في دفع الحقوق وأساءوا تأويل الألفاظ المبهمة واغتروا بالظواهر وأخطئوا فيها
وهذا من قبيل الخطأ في الفتوى والغرور فيه والخطأ في الفتاوى مما يكثر
ولكن هذا نوع عم الكافة إلا الأكياس منهم فنشير إلى أمثلة فمن ذلك فتواهم بأن المرأة متى أبرأت من الصدق برئ الزوج بينه وبين الله تعالى وذلك خطأ بل الزوج قد يسيء إلى الزوجة بحيث يضيق عليها الأمور بسوء الخلق فتضطر إلى طلب الخلاص فتبرئ الزوج لتتخلص منه فهو إبراء لا على طيبة نفس وقد قال تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً وطيبة النفس غير طيبة القلب فقد يريد الإنسان بقلبه ما لا تطيب به نفسه فإنه يريد الحجامة بقلبه ولكن تكرهها نفسه وإنما طيبة النفس أن تسمح نفسها بالإبراء لا عن ضرورة تقابله حتى إذا رددت بين ضررين اختارت أهونهما فهذه مصادرة على التحقيق بإكراه الباطن
نعم القاضي في الدنيا لا يطلع على القلوب والأغراض فينظر إلى الإبراء الظاهر وأنها لم تكره بسبب ظاهر والإكراه الباطن ليس يطلع الخلق عليه ولكن مهما تصدى القاضي الأكبر في صعيد القيامة للقضاء لم يكن هذا محسوباً ولا مقيداً في تحصيل الإبراء ولذلك لا يحل أن يؤخذ مال إنسان إلا بطيب نفس منه فلو طلب من الإنسان ما لالا على ملأ من الناس فاستحيا من الناس أن لا يعطيه وكان يود أن يكون سؤاله في خلوة حتى لا يعطيه ولكن خاف ألم مذمة الناس وخاف ألم تسليم المال وردد نفسه بينهما