عالمه ومملكته ولله الخلق والأمر جميعاً ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه قل الروح من أمر ربي هو الأمير والملك لأن بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيباً وعالم الأمر أمير على عالم الخلق وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد من عرفها فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه وعند ذلك يشم العبد مبادىء روائح المعنى المطوي تحت قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خلق آدم على صورته ونظر بعين الرحمة إلى الحاملين له على ظاهر لفظه وإلى المتعسفين في طريق تأويله وإن كانت رحمته للحاملين على اللفظ أكثر من رحمته للمتعسفين في التأويل لأن الرحمة على قدر المصيبة ومصيبة أولئك أكثر وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر فالحقيقة فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحكمته يختص بها من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ولنعد إلى الغرض فقد أرخينا الطول وطولنا النفس في أمر هو أعلاى من علوم المعاملات التي نقصدها في هذا الكتاب فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال المكذبين وشهادة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل تحت الحصر فلذلك لم نوردها
الرتبة الثانية رتبة المعذبين وهذه رتبة من تحلى بأصل الإيمان ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه فإن رأس الإيمان هو التوحيد وهو أن لا يعبد إلا الله ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة بل معنى قولك لا إله إلا الله معنى قوله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهو أن تذر في بالكلية غير الله ومعنى قوله تعالى الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكمل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأخذ من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير إذ لا يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم فذلك يقتضي لا محالة نقصاناً في درجات القرب ومع كل نقصان ناران نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان ونار جهنم كما وصفها القرآن فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذباً مرتين من وجهين ولكن شدة ذلك العذاب وخفته وتفاوته بحسب طول المدة إنما يكون بسبب أمرين أحدهما قوة الإيمان وضعفه والثاني كثرة اتباع الهوى وقلته وإذ لا يخلو بشر في غالب الأمر عن واحد من الأمرين قال الله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظالمين فيها جثياً ولذلك قال الخائفون من السلف إنما خوفنا لأنا تيقنا أنا على النار واردون وشككنا في النجاة ولما روى الحسن الخبر الوارد فيمن يخرج من النار بعد ألف عام وأنه ينادي يا حنان يا منان (١) قال الحسن يا ليتني كنت ذلك الرجل واعلم أن في الأخبار ما يدل على أن آخر من يخرج من النار بعد سبعة آلاف سنة وأن الاختلاف في المدة بين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة حتى قد يجوز بعضهم على النار كبرق خاطف ولا يكون له فيها لبث وبين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة درجات متفاوتة من اليوم والأسبوع والشهر وسائر المدد وأن الاختلاف بالشدة لا نهاية لأعلاه وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو وقد يضرب بالسياط وقد يعذب بنوع آخر من العذاب ويتطرق إلى العذاب اختلاف ثالث في غير المدة والشدة وهو اختلاف الأنواع إذ ليس من يعذب بمصادرة المال فقط كمن يعذاب بأخذ المال وقتل الولد واستباحة الحريم وتعذيب الأقارب والضرب وقطع اللسان واليد
(١) حديث من يخرج من النار بعد ألف عام أنه ينادي يا حنان يا منان أخرجه أحمد وأبو يعلي من رواية أبى ظلال القسملى عن أنس وأبو ظلال ضعيف واسمه هلال بن ميمون