الله كالذي يتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد لعلمه أن ديوان العباد لا يترك وما بينه وبين الله يتسارع العفو إليه فهذا أيضاً ممكن كما في تفاوت الكبائر والصغائر لأن الكبائر أيضاً متفاوتة في أنفسها وفي اعتقاد مرتكبها ولذلك قد يتوب عن بعض الكبائر التي لا تتعلق بالعباد كما يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلاً إذ يتضح له أن الخمر مفتاح الشرور وأنه إذا زال عقله ارتكب جميع المعاصي وهو لا يدرى فبحسب ترجح شرب الخمر عنده ينبعث منه خوف يوجب ذلك تركا في المستقبل وندماً على الماضي
الثالث أن يتوب عن صغيرة أو صغائر وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة كالذي يتوب عن الغيبة أو عن النظر إلى غير المحرم أو ما يجري مجراه وهو مصر على شرب الخمر فهو أيضاً ممكن ووجه إمكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف من معاصيه ونادم على فعله ندماً إما ضعيفاً وإما قوياً ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم قلبه في الخوف منها لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهل والغفلة وأسباب توجب قوة الشهوة فيكون الندم موجوداً ولكن لا يكون ملياً بتحريك العزم ولا قوياً عليه فإن سلم عن شهوة أقوى منه بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب ذلك ترك المعصية وقد تشتد ضراوة الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه وتكون له ضراوة ما بالغيبة وثلب الناس والنظر إلى غير المحرم وخوفه من الله قد بلغ مبلغاً يقمع هذه الشهوة الضعيفة دون القوية فيوجب عليه جند الخوف انبعاث العزم للترك بل يقول هذا الفاسق في نفسه إن قهرنى الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي فلا ينبغي أن أخلع العذار وأرخي العنان بالكلية بل أجاهده في بعض المعاصي فعساني أغلبه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم ولقيل له إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح وإن كانت لله فاترك الفسق لله فإن أمر الله فيه واحد فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله تعالى ما لم تتقرب بترك الفسق وهذا محال بأن يقول لله تعالى على أمران ولي على المخالفة فيهما عقوبتان وأناملي في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في الآخر فأنا أقهره فيما أقدر عليه وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عنى بعض ما عجزت عنه بفرط شهوتي فكيف لا يتصور هذا وهو حال كل مسلم إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته ولاسبب له إلا هذا وإذا فهم هذا فهم أن غلبة الخوف للشهوة في بعض الذنوب ممكن وجودها والخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم والندم يورث العزم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الندم توبة ولم يشترط الندم على كل ذنب وقال التائب من الذنب كمن لا ذنب له ولم يقل التائب من الذنوب كلها وبهذه المعاني تبين سقوط قول القائل أن التوبة عن بعض الذنوب غير ممكنة لأنها متمائلة في حق الشهوة وفي حق التعرض إلى سخط الله تعالى نعم يجوز أن يتوب عن شرب الخمر دون النبيذ لتفاوتهما في اقتضاء السخط ويتوب عن الكثير دون القليل لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة فيساعد الشهوة بالقدر الذي يعجز عنه ويترك بعض شهوته لله تعالى كالمريض الذي حذره الطبيب الفاكهة فإنه قد يتناول قليلها ولكن لا يستكثر منها فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شيء ولا يتوب عن مثله بل لا بد وأن يكون ما تاب عنه مخالفاً لما بقي عليه إما في شدة المعصية وإما في غلبة الشهوة وإذا حصل هذا التفاوت في اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله في الخوف والندم فيتصور اختلاف حاله في الترك فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على الترك يلحقه بمن لم يذنب وإن لم يكن قد أطاع الله في جميع الأوامر والنواهي
فإن قلت هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة فأقول لا لأن التوبة عبارة عن ندم