يبعث العزم على الترك فيما يقدر على فعله وما لا يقدر على فعله فقد انعدم بنفسه لا بتركه إياه ولكني أقول لو طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه وثار منه احتراق وتحسر وندم بحيث لو كانت شهوة الوقاع به باقية لكانت حرقة الندم تقمع تلك الشهوة وتغلبها فإني أرجو أن يكون ذلك مكفراً لذنبه وما حيا عنه سيئته إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طريان العنة ومات عقيب التوبة كان من التائبين وإن لم يطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة وتتيسر أسباب قضاء الشهوة ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغاً أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده فإذن لا يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ إلا أنه لا يعرفه من نفسه فإن كل من لا يشتهي شيئاً يقدر نفسه قادراً على تركه بأدنى خوف والله تعالى مطلع على ضميره وعلى مقدار ندمه فعساه يقبله منه بل الظاهر أنه يقبله
والحقيقة في هذا كله ترجع إلى ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين أحدهما حرقة الندم والآخر شدة المجاهدة بالترك في المستقبل وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة ولكن ليس محالاً أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة ولولا هذا لقلنا إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في عين تلك الشهوة مرات كثيرة وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلاً
فإن قلت إذا فرضنا تائبين أحدهما سكنت نفسه عن النزوع إلى الذنب والآخر بقي في نفسه نزوع إليه وهو يجاهدها ويمنعها فأيهما أفضل فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء فيه فقال أحمد بن أبي الحواري وأصحاب أبي سليمان الداراني إن المجاهد أفضل لأن له مع التوبة فضل الجهاد وقال علماء البصرة ذلك الآخر أفضل لأنه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السلامة من المجاهد الذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة وما قاله كل واحد من الفريقين لا يخلو عن حق وعن قصور عن كمال الحقيقة
والحق فيه أن الذي انقطع نزوع نفسه له حالتان إحداهما أن يكون انقطاع نزوعه إليها بفتور في نفس الشهوة فقط فالمجاهد أفضل من هذا إذ تركه بالمجاهدة قد دل على قوة نفسه واستيلاء دينه على شهوته فهو دليل قاطع على قوة اليقين وعلى قوة الدين وأعني بقوة الدين قوة الإرادة التي تنبعث بإشارة اليقين وتقمع الشهوة المنبعثة بإشارة الشياطين فهاتان قوتان تدل المجاهدة عليهما قطعاً وقول القائل إن هذا أسلم إذ لو فتر لا يعود إلى الذنب فهذا صحيح ولكن استعمال لفظ الأفضل فيه خطأ وهو كقول القائل العنين أفضل من الفحل لأنه في أمن من خطر الشهوة والصبي أفضل من البالغ لأنه أسلم والمفلس أفضل من الملك القاهر القامع لأعدائه لأن المفلس لا عدو له والملك ربما يغلب مرة وإن غلب مرات وهذا كلام رجل سليم القلب قاصر النظر على الظواهر غير عالم بأن العز في الأخطار وأن العلو شرطه اقتحام الأغرار بل كقول القائل الصياد الذي ليس له فرس ولا كلب أفضل في صناعة الاصطياد وأعلى رتبة من صاحب الكلب والفرس لأنه آمن من أن يجمح به فرسه فتنكسر أعضاؤه عند السقوط على الأرض وآمن من أن يعضه الكلب ويعتدي عليه وهذا خطأ بل صاحب الفرس والكلب إذا كان قوياً عالماً بطريق تأديبهما أعلى رتبة وأحرى بدرك سعادة الصيد
الحالة الثانية أن يكون بطلان النزوع بسبب قوة اليقين وصدق المجاهدة السابقة إذ بلغ مبلغاً قمع هيجان الشهوة حتى تأدبت بأدب الشرع فلا تهيج إلا بالإشارة من الدين وقد سكنت بسبب استيلاء الدين عليها فهذا أعلى رتبة من المجاهد المقاسي لهيجان الشهوة وقمعها وقول القائل ليس لذلك فضل الجهاد قصور عن الإحاطة بمقصود