للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حضور المشتهى والنظر إليه وعلاجه الهرب والعزلة ومن داخل تناول لذائذ الأطعمة وعلاجه الجوع والصوم الدائم وكل ذلك لا يتم إلا بصبر ولا يصبر إلا عن خوف ولا يخاف إلا عن علم ولا يعلم إلا عن بصيرة وافتكار أو عن سماع وتقليد فأول الأمر حضور مجالس الذكر ثم الاستماع من قلب مجرد عن سائر الشواغل مصروف إلى السماع ثم التفكر فيه لتمام الفهم وينبعث من تمامه لا محالة خَوْفُهُ وَإِذَا قَوِيَ الْخَوْفُ تَيَسَّرَ بِمَعُونَتِهِ الصَّبْرُ وانبعثت الدواعي لطلب العلاج وَتَوْفِيقُ اللَّهِ وَتَيْسِيرُهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فَمَنْ أَعْطَى مِنْ قَلْبِهِ حُسْنَ الْإِصْغَاءِ وَاسْتَشْعَرَ الْخَوْفَ فاتقى وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره والله تَعَالَى لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَيُيَسِّرُهُ اللَّهُ لِلْعُسْرَى فَلَا يُغْنِي عَنْهُ مَا اشْتَغَلَ بِهِ مِنْ مَلَاذِّ الدُّنْيَا مَهْمَا هَلَكَ وَتَرَدَّى وَمَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا شَرْحُ طرق الهدى وإنما لله الآخرة والأولى

فإن قلت فقد رجع الأمر كله إلى الإيمان لأن ترك الذنب لا يمكن إلا بالصبر عنه والصبر لا يمكن إلا بمعرفة الخوف والخوف لا يكون إلا بالعلم والعلم لا يحصل إلا بالتصديق بعظم بعزم ضرر الذنوب والتصديق بعظم ضرر الذنوب هو تصديق الله ورسوله وهو الإيمان فكأن من أصر على الذنب لم يصر عليه إلا لأنه غير مؤمن فاعلم أن هذا لا يكون لفقد الإيمان بل يكون لضعف الإيمان إذ كل مؤمن مصدق بأن المعصية سبب البعد من الله تعالى وسبب العقاب في الآخرة

ولكن سبب وقوعه في الذنب أمور

أحدها أن العقاب الموعود غيب ليس بحاضر والنفس جبلت متأثرة بالحاضر فتأثرها بالموعود ضعيف بالإضافة إلى تأثرها بالحاضر

الثاني أن الشهوات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة وهي في الحال آخذة بالمخنق وقد قوي ذلك واستولى عليها بسبب الاعتياد والإلف والعادة طبيعة خامسة والنزوع عن العاجل لخوف الآجل شديد على النفس ولذلك قال تعالى كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقال عز وجل بل تؤثرون الحياة الدنيا وقد عبر عن شدة الأمر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات (١) وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خلق النار فقال لجبريل عليه السلام اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها وخلق الجنة فقال لجبريل عليه السلام اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره ثم قال اذهب فانظر إليها فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد (٢) فإذاً كون الشهوة مرهقة في الحال وكون العقاب متأخراً إلى المآل سببان ظاهران في الاسترسال مع حصول أصل الإيمان فليس كل من يشرب في مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذباً بأصل الطب ولا مكذباً بأن ذلك مضر في حقه ولكن الشهوة تغلبه وألم الصبر عنه ناجز فيهون عليه الألم المنتظر

الثالث أنه ما من مذنب مؤمن إلا وهو فى الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئات بالحسنات وقد وعد بأن ذلك يخبره إلا أن طول الأمل غالب على الطباع فلا يزال يسوف التوبة والتكفير فمن حيث رجاؤه التوفيق للتوبة ربما يقدم عليه مع الإيمان

الرابع أنه ما من مؤمن موقن إلا وهو معتقد أن الذنوب لا توجب العقوبة إيجاباً لا يمكن العفو عنها


(١) حديث حفت الجنة بالمكاره الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة
(٢) حديث إن الله خلق النار فقال لجبريل اذهب فانظر إليها الحديث أخرجه أبو داود والترمذى والحاكم وصححه من حديث أبى هريرة وقدم فيه ذكر الجنة

<<  <  ج: ص:  >  >>