إلا بدوام الذكر ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن ولا يبقى البدن إلا بالغذاء ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق سائر الأعضاء ظاهراً وباطناً فكل ذلك لأجل البدن والبدن مطية النفس والراجح إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة فلذلك قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق} الآية فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية ولتذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء حتى تعتبر بها وتعلم طريقة الشكر والكفران على النعم فنقول مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِهِمَا قِوَامُ الدُّنْيَا وَهُمَا حَجَرَانِ لَا مَنْفَعَةَ فِي أَعْيَانِهِمَا وَلَكِنْ يُضْطَرُّ الْخَلْقُ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي مَطْعَمِهِ وَمَلْبَسِهِ وَسَائِرِ حَاجَاتِهِ وَقَدْ يَعْجِزُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَمْلِكُ مَا يَسْتَغْنِي عنه كمن يملك الزعفران مثلاً وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا ثياب أو عبداً بخف أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تتناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جداً فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال هذا الجمل يسوي مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يسوي مائة فهما من حيث إنهما مساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الْأَيْدِي وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّلُ بِهِمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلاً فاحتيج إلى شيء وهو في صورته كأنه ليس بشيء وهو فى معناه كأنه كل الأشياء والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحرف لا معنى له نفسه وتظهر به المعاني في غيره فهذه هي الحكمة الثانية وفيهما أيضاً حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فِيهِمَا فَإِذَنْ مَنْ كَنَزَهُمَا فَقَدْ ظَلَمَهُمَا وَأَبْطَلَ الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولها الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للراتب فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة في صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة أخبر هؤلاء العاجزين