بكلام سمعوه من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى الذي عجزوا عن إدراكه فقال تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالاً ممن كنز لأن مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس والحبس أهوك منه وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات عن أن تتبدد وإنما الأواني لحفظ المائعات ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية وقيل له من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنة نار جهنم وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاماً ودابة إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض فى أعيانهما وموقهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره وكموقع المرآة من الألوان فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيداً عنده وينزل منزلا المكنوز وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم كما أن حبسه ظلم فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصوداً للادخار وهو ظلم
فإن قلت فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر ولما جاز بيع الدرهم بمثله فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلاً قليلاً ففي المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به وهو تيسر التوصل به إلى غيره وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من الآخر وذلك أيضاً لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الرديء فلا ينتظم العقد وإن طلب زيادة في الرديء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغي أن ينظر إليهما فيما يقصد في عينه وما لا غرض في عينه فلا ينبغي أن ينظر إلا مضافات دقيقة في صفاته وإنما الذي ظلم هو الذي ضرب النقود مختلفة في الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة في أعيانها وحقها أن لا تقصد وأما إذا باع درهماً بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان في القرض وهو مكرمة مندوحة عنه لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر والمعاوضة لاحمد فيها ولا أجر فهو أيضاً ظلم لأنه إضاعة خصوص المسامحة وإخراجها في معرض المعارضة وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغي أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها في الأيدي ويؤخر عنها الأكل الذي أريدت له فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغي أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج ولا يعامل على الأطعمة إلا مستغنٍ عنها إذ من معه طعام فلم