للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يأكله إن كان محتاجاً ولم يجعله بضاعة تجارة وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجاً إليه فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضاً مستغنٍ عنه ولهذا ورد في الشرع لعن المحتكر وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه في كتاب آداب الكسب نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر في الغرض وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند التفاوت في الجودة ومقابلة الجيد بمثله من الرديء لا يرضى بها صاحب الجيد وأما جيد برديئين فقد يقصد ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات والجيد يساوي الرديء في أصل الفائدة ويخالفه في وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام فهذه حكمة الشرع في تحريم الربا وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أوي من جميع ما أوردناه في الخلافيات وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعي رحمه الله في التخصص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالدخول ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد وتحديد هذا كان ممكناً بالقوت وكان ممكناً بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أخرى لكل ما هو ضرورة البقاء وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق في أتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضرورياً فلذلك قال الله تعالى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ولأن أصول هذه المعاني لا تختلف فيها الشرائع وإنما تختلف في وجوه التحديد كما يحد شرع عيسى ابن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو إلى كثير والداخل في الحدود داخل في التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية فهذا مثال واحد لحكمة خفية من حكم النقدين فينبغي أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال فكل ما خلق لحكمة فينبغي أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} ولكن لا تصادف جواهر الحكم في قلوب هي مزابل الشهوات وملاعب الشياطين بل لا يتذكر إلا أولوا الألباب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء (١) وإذ عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك وكل فعل صادر منك فإنه إما شكر وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما وبعض ذلك نصفه في لسان الفقه الذي تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر فأقول مثلاً لو استنجيت باليمنى فقد كفرت نعمة اليدين إذ خلق الله لك اليدين وجعل إحداهما أقوى من الأخرى فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه في الغالب التشريف والتفضيل وتفضيل الناقص عدول عن العدل والله لا يأمر بالعدل ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال بعضها شريف كأخذ المصحف وبعضها خسيس كإزالة النجاسة فإذا أخذت المصحف باليسار وأزلت النجاسة باليمين فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه وظلمته وعدلت عن العدل وكذلك إذا بصقت مثلاً في جهة القبلة أو استقبلتها في قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله تعالى في خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك في حركتك وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها وإلى ما شرفها بأن وضع فيها بيتاً أضافه إلى نفسه استمالةً


(١) حديث لولا أن الشياطين يحومون على بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء تقدم فى الصوم

<<  <  ج: ص:  >  >>