ذكر القدر فأمسكوا (١) فإن للحيطان آذاناً وحواليكم ضعفاء الأبصار فسيروا بسير أضعفكم ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش فيكون ذلك سبب هلاكهم فتخلقوا بأخلاق الله تعالى وانزلوا إلى سماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس بكم الضعفاء ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم كما يقتبس الخفافيش من بقايا نور الشمس والكواكب في جنح الليل فيحيا به حياة يحتملها شخصه وحاله وإن كان لا يحيا به حياة المترددين في كمال نور الشمس وكونوا كمن قيل فيهم
شربنا شراباً طيباً عند طيب ... كذلك شراب الطيبين يطيب
شربنا وأهرقنا على الأرض فضله ... وللأرض من كأس الكرام نصيب
فهكذا كان أول هذا الأمر وآخره ولا تفهمه إلا إذا كنت أهلاً له وإذا كنت أهلاً له فتحت العين وأبصرت فلا تحتاج إلى قائد يقودك والأعمى يمكن أن يقاد ولكن حدٍ ما فإذا ضاق الطريق وصار أحد من السيف وأدق من الشعر قدر الطائر على أن يطير عليه ولم يقدر على أن يستجر وراءه أعمى وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلاً ولم يكن العبور إلا بالسباحة فقد يقدر الماهر بصنعة السباحة أن يعبر بنفسه وربما لم يقدر على أن يستجر وراءه آخر فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو بحال جماهير الخلق كنسبة المشي على الماء إلى المشي على الأرض والسباحة يمكن أن تتعلم فأما المشي على الماء فلا يكتسب بالتعليم بل ينال بقوة اليقين ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام يقال أنه مشى على الماء فقال صلى الله عليه وسلم لو ازداد يقيناً لمشي على الهواء // حديث قيل له يقال إن عيسى مشى على الماء قال لو ازداد يقيناً لمشي على الهواء هذا حديث منكر لا يعرف هكذا والمعروف رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب اليقين من قول بكر بن عبد الله المزنى قال فقد الحواريون نبيهم فقيل لهم توجه نحو البحر فانطلقوا يطلبونه فلما انتهو إلى البحر إذا هو قد أقبل يمشى على الماء فذكر حديثا فيه أن عيسى قال لو أن لابن آدم من اليقين شعره مشى على الماء وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس بسند ضعيف من حديث معاذ بن جبل لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال فهذه رموز وإشارات إلى معنى الكراهة والمحبة والرضا والغضب والشكر والكفران لا يليق بعلم المعاملة أكثر منها وقد ضرب الله تعالى مثلاً لذلك تقريباً إلى أفهام الخلق إذ عرف أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه فكانت عبادتهم غاية الحكمة في حقهم ثم أخبر أن له عبدين يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين ويبغض الآخر واسمه إبليس وهو اللعين المنظر إلى يوم الدين ثم أحال الإرشاد إلى جبريل فقال تعالى {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} وقال تعالى {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} وأحال الإغواء على إبليس فقال تعالى {ليضل عن سبيله} والإغواء هو استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي غضب عليه والإرشاد سياقه لهم إلى الغاية فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أحبه وعندك في العادة له مثال فالملك إذا كان محتاجاً إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف فناء منزله عن القاذورات وكان له عبدان فلا يعين للحجامة والتنظيف إلا أقبحهما وأخسهما ولا يفوض حمل الشراب والطيب إلا إلى أحسنهما وأكملهما وأحبهما إليه ولا ينبغي أن تقول هذا فعلي ولم يكون فعله دون فعلي فإنك أخطات إذ أضفت ذلك إلى نفسك بل هو الذي صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب بالشخص المحبوب إتماماً للعدل فإن عدله تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها وتارة يتم فيك فإنك أيضاً من أفعاله فداعيتك وقدرتك وعلمك وعملك وسائر أسباب
(١) حديث إذا ذكر القدر فأمسكوا رواه الطبرانى من حديث ابن مسعود وقد تقدم فى العلم ولم يصرح المصنف بكونه حديثا