للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويأنس إليها وإلى شفقتها ويقدر الآب عدو له ولو عقل لعلم أن الأم عدواً باطناً فى سورة صديق لأن منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض وآلام أشد من الحجامة ولكن الصديق الجاهل شر من العدو العاقل وكل إنسان فإنه صديق نفسه ولكنه صديق جاهل فلذلك تعمل به مالا يعمل به العدو

قسمة ثانية اعلم أن كل الأسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها فقلما يصفو خيرها كالمال والأهل والولد والأقارب والجاه وسائر الأسباب ولكن تنقسم إلى ما نفعه أكثر من ضره كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر الأسباب وإلى ما ضره أكثر من نفعه في حق أكثر الأشخاص كالمال الكثير والجاه الواسع وإلى ما يكافىء ضرور نفعه وهذه أمور تختلف بالأشخاص فرب إنسان صالح ينتفع بالمال الصالح وإن كثر فينفقه في سبيل الله ويصرفه إلى الخيرات فهو مع هذه التوفيق نعمة في حقه ورب إنسان يستضر بالقليل أيضاً إذ لا يزال مستصغراً له شاكياً من ربه طالباً للزيادة عليه فيكون ذلك مع هذا الخذلان بلاء في حقه

قسمة ثالثة اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى ما هو مؤثر لذاته لا لغيره وإلى مؤثر لغيره وإلى مؤثر لذاته ولغيره فالأول ما يؤثر لذاته لا لغيره كلذة النظر إلى وجه الله تعالى وسعادة لقائه وبالجملة سعادة الأخرى التي لا انقضاء لها فإنها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى مقصودة وراءها بل تطلب لذاتها الثاني ما يقصد لغيره ولا غرض أصلاً في ذاته كالدراهم والدنانير فإن الحاجة لو كانت لا تنقضى بها فكانت هي والحصباء بمثابة واحدة ولكن لما كانت وسيلة إلى اللذات سريعة الإيصال إليها صارت عند الجهال محبوبة في نفسها حتى يجمعوها ويكنزوها ويتصارفوا عليها بالربا ويظنون أنها مقصودة ومثال هؤلاء مثال من يحب شخصاً فيحب بسببه رسوله الذي يجمع بينه وبينه ثم ينسى في محبة الرسول محبة الأصل فيعرض عنه طول عمره ولا يزال مشغولاً بتعهد الرسول ومراعاته وتفقده وهو غاية الجهل والضلال الثالث ما يقصد لذاته ولغيره كالصحة والسلامة فإنها تقصد ليقدر بسببها على الذكر والفكر الموصلين إلى لقاء الله تعالى أو ليتوصل بها إلى استيفاء لذات الدنيا وتقصد أيضاً لذاتها فإن الإنسان وإن استغنى عن الشيء الذي تراد سلامة الرجل لأجله فيريد أيضاً سلامة الرجل من حيث إنها سلامة فإذن المؤثر لذاته فقط هو الخير والنعمة تحقيقاً وما يؤثر لذاته ولغيره أيضاً فهو نعمة ولكن دون الأول فأما مالا يؤثر إلا لغيره كالنقدين فلا يوصفان أنفسهما من حيث إنهما جوهران بأنهما نعمة بل من حيث هما وسيلتان فيكونان نعمة في حق من يقصد أمر ليس يمكنه أن يتوصل إليه إلا بهما فلو كان مقصده العلم والعبادة ومعه الكفاية التي هي ضرورة حياته استوى عند الذهب والمدر فكان وجودهما وعدمهما عنده بمثابة واحدة بل ربما شغله وجودهما عن الفكر والعبادة فيكونان بلاء في حقه ولا يكونان نعمة

قسمة رابعة اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى نافع ولذيذ وجميل فاللذيذ هو الذي تدرك راحته في الحال والنافع هو الذي يفيد في المآل والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال والشرور أيضاً تنقسم إلى ضار وقبيح ومؤلم وكل واحد من القسمين ضربان مطلق ومقيد فالمطلق هو الذي اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة أما في الخير فكالعلم والحكمة فإنها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة وأما في الشر فكالجهل فإنه ضار وقبيح ومؤلم وإنما يحس الجاهل بألم جهله إذا عرف أنه جاهل وذلك بأن يرى غيره عالماً ويرى نفسه جاهلاً فيدرك ألم النقص فتنبعث منه شهوة العلم اللذيذة ثم قد يمنع الحسد والكبر والشهوات البدنية عن التعلم فيتجاذبه متضادان فيعظم ألمه فإنه إن ترك التعلم تألم بالجهل ودرك النقصان وإن اشتغل بالتعلم تألم بترك الشهوات أو بترك

<<  <  ج: ص:  >  >>