ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحاً فمن أين ينفعه مجرد الإرادة فلا فائدة في الإرادة والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية ولذلك قال تعالى {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وقال تَعَالَى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زكى منكم أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى أي بهدايته فقيل وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أنا (١) وللهداية ثلاث منازل {الأولى} معرفة طريق الخير والشر المشار إليه بقوله تعالى {وهديناه النجدين} وقد أنعم الله تعالى به على كافة عباده بعضه بالعقل وبعضه على لسان الرسل ولذلك قال تعالى {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} فأسباب الهدى هي الكتاب والرسل وبصائر العقول وهي مبذولة ولا يمنع منها إلا الحسد والكبر وحب الدنيا والأسباب التي تعمي القلوب وإن كانت لا تعمى الأبصار قال تعالى {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ومن جملة المعميات الإلف والعادة وحب استصحابهما وعنه العبارة بقوله تعالى {إنا وجدنا آباءنا على أمة} الآية وعن الكبر والحسد العبارة بقوله تعالى {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} وقوله تعالى {أبشرا منا واحداً نتبعه} فهذه المعميات هي التي منعت الاهتداء والهداية الثانية وراء هذه الهداية العامة وهي التي يمد الله تعالى بها العبد حالاً بعد حال وهي ثمرة المجاهدة حيث قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وهو المراد بقوله تعالى {والذين اهتدوا زادهم هدى} والهداية الثالثة وراء الثانية وهو النور الذي يشرق في عالم النبوة والولاية بعد كمال المجاهدة فيهتدي بها إلا ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف وإمكان تعلم العلوم وهو الهوى المطلق وما عداه حجاب له ومقدمات وهو الذي شرفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه وإن كان الكل من جهته تعالى فقال تعالى {قل إنّ هدى الله هو الهدى} وهو المسمى حياة في قوله تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} والمعنى بقوله تعالى {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وأما الرشد فنعني به العناية الإلهية التي تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده فتقوبه على ما فيه صلاحه وتفتره عما فيه فساده ويكون ذلك من الباطن كما قال تعالى {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} فالرشد عبارة عن هداية باعثة إلى جهة السعادة محركة إليها فالصبي إذا بلغ خبيراً بحفظ المال وطرق التجارة والاستنماء ولكنه مع ذلك يبذر ولا يريد الاستنماء لا يسمى رشيداً لا لعدم هدايته بل لقصور هدايته عن تحريك داعيته فكم من شخص يقدم على ما يعلم أنه يضره فقد أعطي الهداية وميز بها عن الجاهل الذي لا يدري أنه يضره ولكن ما أعطى الرشد فالرشد بهذا الاعتبار أكمل من مجرد الهداية إلى وجوه الأعمال وهي نعمة عظيمة وأما التسديد فهو توجيه حركاته إلى صوب المطلوب وتيسرها عليه ليشتد في صوب الصواب في أسرع وقت فإن الهداية بمجردها لا تكفي بل لا بد من هداية محركة للداعية وهي الرشد والرشد لا يكفي بل لا بد من تيسر الحركات بمساعدة الأعضاء والآلات حتى يتم المراد مما انبعثت الداعية إليه فالهداية محض التعريف والرشد هو تنبيه الداعية لتستقيظ وتتحرك والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد وأما التأييد فكأنه جامع للكل وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج وهو المراد بقوله عز وجل {إذ أيدتك بروح القدس} وتقرب منه العصمة وهى
(١) حديث ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله متفق عليه من حديث أبى هريرة لن يدخل أحدكم عمله الجنة قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة وفى رواية لمسلم ما من أحد يدخله عمله الجنة الحديث واتفقا عليه من حديث عائشة وانفرد به مسلم من حديث جابر وقد تقدم