للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والإيضاح فنقول فيه كل أمرين مبهمين لا تمكن الموازنة بينهما مع الإبهام ما لم يكشف عن حقيقة كل واحد منهما وكل مكشوف يشتمل على أقسام لا تمكن الموازنة بين الجملة والجملة بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان

والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة فلا يتبين لحكمهما في الرجحان والنقصان مع الإجمال فنقول قد ذكرنا أن هذه المقامات تنتظم من أمور ثلاثة علوم وأحوال وأعمال والشكر والصبر وسائر المقامات هي كذلك وهى الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح للناظرين في الظواهر أن العلوم تراد للأحوال والأحوال تراد للأعمال والأعمال هي الأفضل وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك فإن الأعمال تراد للأحوال والأحوال تراد للعلوم فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال لأن كل مراد لغيره فذلك الغير لا محالة أفضل منه وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد الأحوال إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد المعارف وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع من علوم المعاملة بل علوم المعاملة دون المعاملة لأنها تراد المعاملة ففائدتها إصلاح العمل وإنما فضل العالم بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه فيكون بالإضافة إلى عمل خاص أفضل وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر فنقول فائدة إصلاح العمل إصلاح حال القلب وفائدة إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه وهي الغاية التي تطلب لذاتها فإن السعادة تنال بها بل هي عين السعادة ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة وإنما يشعر بها في الآخرة فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها فلا تتقيد بغيرها

وكل ما عداها من المعارف عبيد وخدم بالإضافة إليها فإنها إنما تراد لأجلها

ولما كانت مرادة لأجلها كان تعاونها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى فإن بعض المعارف يفضي إلى بعض إما بواسطة أو بوسائط كثيرة فكما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل وأما الأحوال فنعني بها أحوال القلب في تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا وشواغل الخلق حتى إذا طهر وصفا اتضح له حقيقة الحق فإذن فضائل الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده لأن تحصل له علوم المكاشفة وكما أن تصقيل المرآة يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها أقرب إلى الصقالة من بعض فكذلك أحوال القلب فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود وهكذا ترتيب الأعمال فإن تأثيرها في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال إليه وكل عمل إما أن يجلب إليه حالة مانعة من المكاشفة موجبة لظلمة القلب جاذبة إلى زخارف الدنيا وإما أن يجلب إليه حالة مهيئة المكاشفة موجبة لصفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه

واسم الأول المعصية واسم الثاني الطاعة والمعاصي من حيث التأثير في ظلمة القلب وقساوته متفاوتة وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها وذلك يختلف باختلاف الأحوال وذلك أنا بالقول المطلق ربما نقول الصلاة النافلة أفضل من كل عبادة نافلة وأن الحج أفضل من الصدقة وأن قيام الليل أفضل من غيره ولكن التحقيق فيه أن الغني الذي معه مال وقد غلبه البخل وحب المال على إمساكه فإخراج الدراهم له أفضل من قيام ليال وصيام أيام لأن الصيام يليق بمن غلبته شهوة البطن فأراد كسرها أو منعه الشبع عن صفاء الفكر من علوم المكاشفة فأراد تصفية القلب بالجوع فأما هذا المدبر إذا لم تكن حاله هذه الحال فليس يستضر بشهوة بطنه ولا هو مشتغل بنوع فكر يمنعه الشبع منه فاشتغاله بالصوم خروج منه عن حاله إلى حال غيره وهو كالمريض الذي يشكو وجع البطن إذا استعمل دواء الصداع لم ينتفع به بل حقه أن ينظر في المهلك الذي استولى عليه والشح المطاع من جملة

<<  <  ج: ص:  >  >>