فرحهم في الآخرة تاب عليهم وكان بعض السلف يقول في دعائه يا رب وأي أهل دهر لم يعصوك ثم كانت نعمتك عليهم سابغة ورزقك عليهم دارا سبحانك ما أحلمك وعزتك إنك لتعصى ثم تسبغ النعمة وتدر الرزق حتى كأنك يا ربنا لا تغضب
فهذه هي الأسباب التي بها يجلب روح الرجاء إلى قلوب الخائفين والآيسين فأما الحمقى المغرورون فلا ينبغي أن يسمعوا شيئا من ذلك بل يسمعون ما سنورده في أسباب الخوف فإن أكثر الناس لا يصلح إلى على الخوف كالعبد السوء والصبى العرم لا يستقيم إلا بالسوط والعصا وإظهار الخشونة في الكلام
وأما ضد ذلك فيسد عليهم باب الصلاح في الدين والدنيا الشطر الثاني من الكتاب في الخوف
وفيه
بيان حقيقة الخوف
وبيان درجاته وبيان أقسام المخاوف وبيان فضيلة الخوف وبيان الأفضل من الخرف والرجاء وبيان دواء الخوف وبيان معنى سوء الخاتمة وبيان أحوال الخائفين من الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحين رحمة الله عليهم ونسأل الله حسن التوفيق بَيَانُ حَقِيقَةِ الْخَوْفِ
اعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْقَلْبِ وَاحْتِرَاقِهِ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ في الإستقبال وقد ظهر هذا في بيان حقيقة الرجاء ومن أنس بالله وملك الحق قلبه وصار ابن وقته مشاهدا لجمال الحق على الدوام لم يبق له التفات إلى المستقبل فلم يكن له خوف ولا رجاء بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء فإنهما زمانان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعوناتها وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد
وقال أيضا إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها فضلة لرجاء ولا لخوف وبالجملة فالمحب إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصا في الشهود وإنما دوام الشهود غاية المقامات ولكنا الآن إنما نتكلم في أوائل المقامات فنقول حال الخوف ينتظم أيضا من علم وحال وعمل
أما العلم فهو العلم بالسبب المفضى إلى المكروه وذلك كمن جنى على ملك ثم وقع في يده فيخاف القتل مثلا ويجوز العفو والإفلات ولكن يكون تألم قلبه بالخوف بحسب قوة عليه بالأسباب المفضية إلى قتله وهو تفاحش جنايته وكون الملك في نفسه حقودا غضوبا منتقما وكونه محفوفا بمن يحثه على الإنتقام خاليا عمن يتشفع إليهم في حقه وكان هذا الخائف عاطلا عن كل وسيلة وحسنة تمحو أثر جنايته عند الملك فالعلم بتظاهر هذه الأسباب سبب لقوة الخوف وشدة تألم القلب وبحسب ضعف هذه الأسباب يضعف الخوف وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية قارفها الخائف بل عن صفة المخوف كالذي وقع في مخالب سبع فإنه يخاف السبع لصفة ذات السبع وهي حرصه وسطوته على الإفتراس غالبا وإن كان إفتراسه بالإختيار وقد يكون من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل أو جوار حريق فإن الماء يخاف لأنه بطبعه مجبول على السيلان والإعراق وكذا النار على الإحراق فالعلم بأسباب المكروه هو السَّبَبُ الْبَاعِثُ الْمُثِيرُ لِإِحْرَاقِ الْقَلْبِ وَتَأَلُّمِهِ وَذَلِكَ الإحراق هو الخوف فكذلك الخوف مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً يَكُونُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَأَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَ الْعَالَمِينَ لَمْ يُبَالِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ وَتَارَةً يَكُونُ لِكَثْرَةِ الْجِنَايَةِ مِنَ الْعَبْدِ بِمُقَارَفَةِ الْمَعَاصِي وَتَارَةً يَكُونُ بِهِمَا جَمِيعًا وَبِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِغْنَائِهِ وَأَنَّهُ لَا يسئل عما يفعل وهم يسئلون