فتكون قُوَّةُ خَوْفِهِ فَأَخْوَفُ النَّاسِ لِرَبِّهِ أَعْرَفُهُمْ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَخْوَفُكُمُ لِلَّهِ (١) وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ثُمَّ إِذَا كَمُلَتِ الْمَعْرِفَةُ أَوْرَثَتْ جَلَالَ الْخَوْفِ وَاحْتِرَاقَ الْقَلْبِ ثُمَّ يَفِيضُ أَثَرُ الْحُرْقَةِ مِنَ القلب على البدن وعلى الجوارج وعلى الصفات
أما في البدن فبالنحول والصفار والغشية والزعقة والبكاء وقد تنشق به المرارة فيفضى إلى الموت أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل أو يقوى فيورث القنوط واليأس
وَأَمَّا فِي الْجَوَارِحِ فَبِكَفِّهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَتَقْيِيدِهَا بالطاعات تلافيا لما فرط وإستعدادا للمستقبل ولذلك قيل ليس الخائف من يبكى ويمسح عينيه بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه وقال أبو القاسم الحكيم من خاف شيئاً هرب منه ومن خاف الله هرب إليه
وقيل لذي النون متى يكون العبد خائفا قال إذا نزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمى مخافة طول السقام
وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَبِأَنْ يَقْمَعَ الشَّهَوَاتِ وَيُكَدِّرَ اللَّذَّاتِ فَتَصِيرَ الْمَعَاصِي الْمَحْبُوبَةُ عِنْدَهُ مَكْرُوهَةً كَمَا يَصِيرُ الْعَسَلُ مَكْرُوهًا عِنْدَ مَنْ يَشْتَهِيهِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ فِيهِ سُمًّا فَتَحْتَرِقُ الشَّهَوَاتُ بِالْخَوْفِ وَتَتَأَدَّبُ الْجَوَارِحُ وَيَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ الذُّبُولُ وَالْخُشُوعُ والذلة والإستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد بل يصير مستوعب الهم بخوفه والنظر في خطر عاقبته فلا يتفرغ لغيره وَلَا يَكُونُ لَهُ شُغْلٌ إِلَّا الْمُرَاقَبَةُ وَالْمُحَاسَبَةُ والمجاهدة والضنة بالأنفاس واللحظات مؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره هذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين وقوة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة بحسب قوة الخوف الذي هو تألم القلب وإحتراقه وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله وصفاته وأفعاله وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال أن يمنع عن المحظورات ويسمى الكف الحاصل عن المحظورات ورعا فإن زادت قوته كف عما يتطرق إليه إمكان التحريم فيكف أيضا عما لا يتيقن تحريمه ويسمى ذلك تقوى إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وقد يحمله على أن يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس وهو الصدق في التقوى فإذا انضم إليه التجرد للخدمة فصار لا يبنى مالا يسكنه ولا يجمع ما لا يأكله ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنها تفارقه ولا يصرف إلى غير الله تعالى نفسا من أنفاسه فهو الصدق وصاحبه جدير بأن يسمى صديقا ويدخل في الصدق التقوى ويدخل في التقوى الورع ويدخل في الورع العفة فإنها عبارة عن الإمتناع عن مقتضى الشهوات خاصة فإذن الخوف يؤثر في الجوارح بالكف والإقدام ويتجدد له بسبب الكف اسم العفة وهو كف عن مقتضى الشهوة وأعلى منه الورع فإنه أعم لأنه كف عن كل محظور وأعلى منه التقوى فإنه اسم للكف عن المحظور والشبهة جميعا ووراءه اسم الصديق والمقرب وتجرى الرتبة الآخرة مما قبلها مجرى الأخص من الأعم فإذا ذكرت الأخص فقد ذكرت الكل كما أنك تقول الإنسان إما عربي وإما عجمي والعربي إما قرشي أو غيره والقرشي إما هاشمي أو غيره والهاشمي إما علوي أو غيره والعلوي إما حسنى أو حسيني فإذا ذكرت أنه حسنى مثلا فقد وصفته بالجميع وإن وصفته بأنه علوي وصفته بما هو فوقه مما هو أعم منه فكذلك إذا قلت صديق فقد قلت إنه تقي وورع وعفيف فلا ينبغي أن تظن أن كثرة هذه الأسامي تدل على معان كثيرة متباينة فيختلط عليك كما اختلط
(١) حديث أنا أخوفكم لله أخرجه البخاري من حديث أنس والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له وللشيخين من حديث عائشة والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية