مهمة أو حاجة خفيفة أو مستغنى عنه فهذه أربعة أحوال
أما المضطر إليه فهو سؤال الْجَائِعِ عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا وَسُؤَالُ الْعَارِي وَبَدَنُهُ مَكْشُوفٌ لَيْسَ مَعَهُ ما يواريه وهو مباح مهما وجدت بقية الشروط في المسئول بكونه مباحا والمسئول منه بكونه راضياً في الباطن وفي السائل بكونه عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ وهو بطال لَهُ السُّؤَالُ إِلَّا إِذَا اسْتَغْرَقَ طَلَبُ الْعِلْمِ أوقاته وكل من له خط فهو قادر على الكسب بالوراقة
وأما المستغني فهو الذي يطلب شيئاً وعنده مثله وأمثاله فسؤاله حرام قطعاً وهذان طرفان واضحان
وَأَمَّا الْمُحْتَاجُ حَاجَةً مُهِمَّةً فَكَالْمَرِيضِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلى دواء ليس يظهر خوفه لو لم يستعمله ولكن لا يخلو عن خوف وَكَمَنَ لَهُ جُبَّةٌ لَا قَمِيصَ تَحْتَهَا فِي الشتاء وهو يتأذى بالبرد تأذياً لا ينتهي إلى حد الضرورة وكذلك من يسأل لأجل الكراء وهو قادر على المشي بمشقة فهذا أيضاً ينبغي أن تسترسل عليه الإباحة لأنها أيضاً حاجة محققة ولكن الصبر عنه أولى وهو بالسؤال تارك للأولى ولا يسمى سؤاله مكروهاً مهما صدق في السؤال وقال ليس تحت جبتي قميص والبرد يؤذيني أذىً أطيقه ولكن يشق علي فإذا صدق فصدقه يكون كفارة لسؤاله إن شاء الله تعالى
وأما الحاجة الخفيفة فمثل سؤال قميصاً ليلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من ثيابه عن أعين الناس وكمن يسأل لأجل الأدم وهو واجد للخبز وكمن يسأل الكراء لفرس في الطريق وهو واجد كراء الحمار أو يسأل كراء المحمل وهو قادر على الراحلة فهذا ونحوه إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام وإن لم يكن وكان فيه شيء من المحذورات الثلاثة من الشكوى والذل وإيذاء المسؤل فهو حرام لأن مثل هذه الحاجة لا تصلح لأن تباح بها هذه المحذورات وإن لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة
فإن قلت فكيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات فاعلم أن الشكوى تندفع بأن يظهر الشكر لله والاستغناء عن الخلق ولا يسأل سؤال محتاج ولكن يقول أنا مستغن بما أملكه ولكن تطالبني رعونة النفس بثوب فوق ثيابي وهو فضلة عن الحاجة وفضول من النفس فيخرج به عن حد الشكوى وأما الذل فبأن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي يعلم أنه لا ينقصه ذلك في عينه ولا يزدريه بسبب سؤاله أو الرجل السخي الذي قد أعد ماله لمثل هذه المكارم فيفرح بوجود مثله ويتقلد منه منة بقبوله فيسقط عنه الذل بذلك فإن الذل لازم للمنة لا محالة
وأما الإيذاء فسبيل الخلاص عنه أن لا يعين شخصاً بالسؤال بعينه بل يلقي الكلام عرضاً بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرع بصدق الرغبة وإن كان في القوم شخص مرموق لو لم يبذل لكان يلام فهذا إيذاء فإنه ربما يبذل كرها خوفاً من الملامة ويكون الأحب إليه في الباطن الخلاص لو قدر عليه من غير الملامة
وأما إذا كان يسأل شخصاً معيناً فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضاً يبقى له سبيلاً إلى التغافل إن أراد فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه فذلك لرغبته وأنه غير متأذٍ به وينبغي أن يسأل من لا يستحيا منه لو رده أو تغافل عنه فإن الحياء من السائل يؤذي كما أن الرياء مع غير السائل يؤذي
فإن قلت فإذا أخذ مع العلم بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين ولولاه لما ابتدأه به فهل هو حلال أو شبهة فأقول ذلك حرام محض لا خلاف فيه بين الأمة وحكمه حكم أخذ مال الغير بالضرب والمصادرة إذ لا فرق بين أن يضرب ظاهر جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء وخوف الملام وضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء ولا يجوز أن يقال هو في الظاهر قد رضي به وقد قال صلى الله عليه وسلم