للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر (١) فإن هذه ضرورة القضاء في فصل الخصومات إذ لا يمكن ردهم إلى البواطن وقرائن الأحوال فاضطروا إلى الحكم بظاهر القول باللسان مع أنه ترجمان كثير الكذب ولكن الضرورة دعت إليه وهذا سؤال عما بين العبد وبين الله تعالى والحاكم فيه أحكم الحاكمين والقلوب عنده كالألسنة عند سائر الحكام فلا تنظر في مثل هذا إلا إلى قلبك وإن أفتوك وأفتوك فإن المفتي معلم للقاضي والسلطان ليحكموا في عالم الشهادة ومفتي القلوب هم علماء الآخرة وبفتواهم النجاة من سلطان الآخرة كما أن بفتوى الفقيه النجاة من سطوة سلطان الدنيا فإذا ما أخذه مع الكراهة لا يملكه بينه وبين الله تعالى ويجب عليه رده إلى صاحبه فإن كان يستحيي من أن يسترده ولم يسترده فعليه أن يثيبه على ذلك بما يساوي قيمته في معرض الهدية والمقابلة ليتفصى عن عهدته فإن لم يقبل هديته فعليه أن يرد ذلك إلى ورثته فإن تلف في يده فهو مضمون عليه بينه وبين الله تعالى وهو عاص بالتصرف فيه وبالسؤال الذي حصل به الأذى

فإن قلت فهذا أمر باطن يعسر الإطلاع عليه فكيف السبيل إلى الخلاص منها فربما يظن السائل أنه راض ولا يكون هو في الباطن راضياً فأقول لهذا ترك المتقون السؤال رأساً فما كانوا يأخذون من أحد شيئاً أصلاً فكان بشر لا يأخذ من أحد أصلاً إلا من السري رحمة الله عليهما وقال لأني علمت أنه يفرح بخروج المال من يده فأنا أعينه على ما يحب وإنما عظم النكير في السؤال وتأكد الأمر بالتعفف لهذا لأن الأذى إنما يحل بضرورة وهو أن يكون السائل مشرفاً على الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد من يعطيه من غير كراهة وأذى فيباح له ذلك كما يباح له أكل لحم الخنزير وأكل لحم الميتة فكان الامتناع طريق الورعين ومن أرباب القلوب من كان واثقاً ببصيرته في الإطلاع على قرائن الأحوال فكانوا يأخذون من بعض الناس دون البعض ومنهم من كان لا يأخذ إلا من أصدقائه ومنهم من كان يأخذ مما يعطي بعضاً ويرد بعضاً كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الكبش والسمن والأقط وكان هذا يأتيهم من غير سؤال فإن ذلك لا يكون إلا عن رغبة ولكن قد تكون رغبته طمعاً في جاه أو طلباً للرياء والسمعة فكانوا يحترزون من ذلك فأما السؤال فقد امتنعوا عنه رأساً إلا في موضعين أحدهما الضرورة فقد سأل ثلاثة من الأنبياء في موضع الضرورة سليمان وموسى والخضر عليهم السلام

ولا شك في أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب في إعطائهم

والثاني السؤال من الأصدقاء والإخوان فقد كانوا يأخذون مالهم بغير سؤال واستئذان لأن أرباب القلوب علموا أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان وقد كانوا وثقوا بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال وحد إباحة السؤال أن تعلم أن المسئول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لا لابتدأك دون السؤال فلا يكون لسؤالك تأثير إلا بتعريف حاجتك فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل فلا ويتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا بالباطن وحالة لا يشك في الكراهة ويعلم ذلك بقرينة الأحوال فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق وفي الثانية سحت ويتردد بين الحالتين أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وَلْيَتْرُكْ حَزَازَ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الْإِثْمُ وَلْيَدَعْ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ وَإِدْرَاكُ ذَلِكَ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ سَهْلٌ عَلَى مَنْ قَوِيَتْ فِطْنَتُهُ وَضَعُفَ حِرْصُهُ وَشَهْوَتُهُ فَإِنْ قَوِيَ الْحِرْصُ وَضَعُفَتِ الْفَطِنَةُ تَرَاءَى لَهُ مَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ فَلَا يَتَفَطَّنُ لِلْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَبِهَذِهِ الدَّقَائِقِ يطلع على سر قوله


(١) حديث إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر لم أجد له أصلا وكذا قال المزى لما سئل عنه

<<  <  ج: ص:  >  >>