من يغلبك عليه أو يبعث حية تزعجك عن مكانك وتفرق بينك وبين طعامك وإذا احتمل أمثال ذلك ولم يكن لها علاج إلا بفضل الله تعالى فبذلك فلتفرح وعليه فلتعول فإذا كان هذا حاله وعلمه فليمد اليد فإنه متوكل الدرجة الثانية الأسباب التي ليست متيقنة ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها وكان احتمال حصولها دونها بعيداً كالذي يفارق الأمصار والقوافل ويسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً ويكون سفره من غير استصحاب زاد فهذا ليس شرطاً في التوكل بل استصحاب الزاد في البوادي سنة الأولين ولا يزول التوكل به بعد أن يكون الاعتماد على فضل الله تعالى لا على الزاد كما سبق ولكن فعل ذلك جائز وهو من أعلى مقامات التوكل ولذلك كان يفعله الخواص
فإن قلت فهذا سعي في الهلاك وإلقاء النفس في التهلكة فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراماً بشرطين أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها وسواها على الصبر عن الطعام أسبوعاً وما يقاربه بحيث يصبر عنه بلا ضيق قلب وتشوش خاطر وتعذر في ذكر الله تعالى والثاني أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق من الأشياء الخسيسة فبعد هذين الشرطين لا يخلو في غالب الأمر في البوادي في كل أسبوع عن أن يلقاه آدمي أو ينتهي إلى حلة أو قرية أو إلى حشيش يجتزئ به فيحيا به مجاهداً نفسه والمجاهدة عماد التوكل وعلى هذا كان يعول الخواص ونظراؤه من المتوكلين والدليل عليه أن الخواص كان لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة ويقول هذا لا يقدح في التوكل وسببه أنه علم أن البوادي لا يكون الماء فيها على وجه الأرض وما جرت سنة الله تعالى بصعود الماء من البئر بغير دلو ولا حبل ولا يغلب وجود الحبل والدلو في البوادي كما يغلب وجود الحشيش والماء يحتاج إليه لوضوئه كل يوم مرات ولعطشه في كل يوم أو يومين مرة فإن المسافر مع حرارة الحركة لا يصبر عن الماء وإن صبر عن الطعام وكذلك يكون له ثوب واحد وربما يتخرق فتنكشف عورته ولا يوجد المقراض والإبرة في البوادي غالباً عند كل صلاة ولا يقوم مقامهما في الخياطة والقطع شيء مما يوجد في البوادي فكل ما في معنى الأربعة أيضاً يلتحق بالدرجة الثانية لأنه مظنون ظناً ليس مقطوعاً به لأنه يحتمل أن لا يتخرق الثوب أو يعطيه إنسان ثوباً أو يجد على رأس البئر من يسقيه ولا يحتمل أن يتحرك الطعام ممضوغاً إلى فيه فبين الدرجتين فرقان ولكن الثاني في معنى الأول ولهذا نقول لو انحاز إلى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلاً فهو آثم به ساع في هلاك نفسه كما روي أن زاهداً من الزهاد فارق الأمصار وأقام في سفح جبل سبعاً وقال لا أسأل أحداً شيئاً حتى فائتني ربي برزقي فقعد سبعة فكاد يموت ولم يأته رزق فقال يا رب إن أحييتني فائتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك فأوحى الله جل ذكره إليه وعزتي لا أرزقنك حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس فدخل المصر وقعد فجاءه هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب وأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا أما علمت أني أرزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلي من أن أرزقه بيد قدرتي فإذن التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا يناقض التوكل كما ضربناه مثلاً في الوكيل بالخصومة من قبل ولكن الأسباب تنقسم إلى ظاهرة وإلى خفية فمعنى التوكل الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة مع سكون النفس إلى مسبب السبب لا إلى السبب