فإن قلت ما قولك في القعود في البلد بغير كسب أهو حرام أو مباح أو مندوب فاعلم أن ذلك ليس بحرام لأنه كفعل صاحب السياحة في البادية إذا لم يكن مهلكاً نفسه فهذا كيف كان لم يكن مهلكاً نفسه حتى يكون فعله حراماً بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخر عنه والصبر ممكن إلى أن يتفق ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام وإن فتح باب البيت وهو بطال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج أولى له ولكن ليس فعله حراماً إلا أن يشرف على الموت فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب وإن كان مشغول القلب بالله غير مستشرف إلى الناس ولا متطلع إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزقه بل تطلعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات التوكل وهو أن يشتغل بالله تعالى ولا يهتم برزقه فإن الرزق يأتيه لا محالة وعند هذا يصح ما قاله بعض العلماء وهو أن العبد لو هرب من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه وأنه لو سأل الله تعالى أن لا يرزقه لما استجاب وكان عاصياً ولقال له يا جاهل كيف أخلقك ولا أرزقك ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما اختلف الناس في كل شيء إلا في الرزق والأجل فإنهم أجمعوا على أن لا رزاق ولا مميت إلا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطاناً ولزالت بدعائكم الجبال (١) وقال عيسى عليه السلام انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر والله تعالى يرزقها يوماً بيوم فإن قلتم نحن أكبر بطوناً فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الحق للرزق وقال أبو يعقوب السوسي المتوكلون تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعب منهم وغيرهم مشغولون مكدودون وقال بعضهم العبيد كلهم في رزق الله تعالى ولكن بعضهم يأكل بذل كالسؤال وبعضهم بتعب وانتظار كالتجار وبعضهم بامتهان كالصناع وبعضهم بعز كالصوفية يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة الدرجة الثالثة ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها وهو الذي فيه الناس كلهم أعني من يكتسب بالحيل الدقيقة اكتساباً مباحاً لمال مباح فأما أخذ الشبهة أو اكتساب بطريق فيه شبهة فذلك غاية الحرص على الدنيا والاتكال على الأسباب فلا يخفى أن ذلك يبطل التوكل وهذا مثل الأسباب التي نسبتها إلى جلب النافع مثل نسبة الرقية والطير والكي بالإضافة إلى إزالة الضار فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المتوكلين بذلك ولم يصفهم بأنهم لا يكتسبون ولا يسكنون الأمصار ولا يأخذون من أحد شيئاً بل وصفهم بأنهم يتعاطون هذه الأسباب وأمثال هذه الأسباب التي يوثق بها في المسببات مما يكثر فلا يمكن إحصاؤها وقال سهل في التوكل إنه ترك التدبير وقال إن الله خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه وإنما حجابهم بتدبيرهم ولعله أراد به استنباط الأسباب البعيدة بالفكر فهي التي تحتاج إلى التدبير دون الأسباب الجلية فإذن قد ظهر أن الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل وإلى ما لا يخرج وأن الذي يخرج ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون وأن المقطوع به لا يخرج عن التوكل عند وجود حال التوكل وعلمه وهو الاتكال على مسبب الأسباب فالتوكل فيها بالحال والعلم لا بالعمل وأما المظنونات
(١) حديث لو توكلتم على الله حق توكله الحديث وزاد فى آخره ولزالت بدعائكم الجبال وقد تقدما قريبا دون هذه الزيادة فرواها الإمام محمد بن نصر فى كتاب تعظيم قدر الصلاة من حديث معاذ بن جبل بإسناد فيه لين لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ورواه البيهقى فى الزهد من رواية وهيب المكى مرسلا دون قوله لمشيتم على البحور وقال هذا منقطع